معركة بدر حسمٌ للخيار وتثبيتٌ للوجود وعبرةٌ للمسلمين
- المجموعة: مقالات سيرة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 4717
أدركت القوّة المستكبرة في مجتمع قريش خطر الإسلام ومجتمعه الوليد بقيادة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على الأوضاع في الجزيرة العربية فيما لو سمحت الظروف للمسلمين أن يمارسوا أسلوب الدعوة والتبليغ للدين الجديد بحرية وراحة تامّتين مستفيدين في ذلك من الإستقرار النسبي الذي تحقّق عبر تكوين المجتمع الإسلامي الأول من مسلمي المدينة المنوّرة والمهاجرين المكيّين بقيادة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) وبرعايته وإشرافه، فكان لا بدّ لقريشٍ من أخذ المبادرة لقطع الطريق على ذلك المجتمع الوليد من التنامي والإتساع من جهة، ولإجهاض التجربة وتقويضها قبل أن يستفحل الخطر عبر اشتداد وساعد المسلمين وازدياد قوّتهم وقدرتهم من جهة أخرى.
وقد استندت قريش في ذلك التخطيط إلى ميزان القوى الذي كان يميل لصالحها بنسبةٍ كبيرة وتحظى بالدعم والتأييد من غالبية المحيط الموجودة فيه المؤمن بطريقة الحياة المتّبعة على النمط الجاهلي، بينما كان المسلمون كالأغراب في وسط ذلك المحيط غير الإسلامي ممّا قد يوحي بالإحباط من جهة وبالضعف من الجهة الأخرى.
لهذا كانت معركة بدر في عمقها تعبيراً عن الصراع بين الطريقة الموجودة لنمط الحياة المستند إلى عبادة الأوثان بكلّ ما ترمز إليه من الإبتعاد عن خطّ التوحيد ومن المحافظة على عبادة الآباء والأجداد، وبين الطريقة الجديدة التي شقّت طريقها بصعوبة من بين الموانع والعقبات العديدة التي تجاوزها المسلمون الأوائل وتحمّلوا الآلام ودفعوا ضريبة الإيمان بالإسلام حتّى توصّلوا إلى إقامة النموذج للمجتمع المستند في حركته إلى القانون الإلهي.
من هنا، كانت تلك المعركة نقطة فاصلة في مسيرة الدعوة الإسلامية، وميدان اختبار أساسي لقدرة المسلمين على الدفاع عن عقيدتهم من جهة والمجتمع الجديد الذي يريدون له الإستقرار والنمو والتوسّع ليكون البديل عن كلّ الواقع المنحرف والبعيد عن الصراط المستقيم من جهةٍ أخرى.
لقد دخل كلٌّ من الطرفين المعركة وهو يدرك أنّ النتيجة المتوخّاة منها تتجاوز مجرياتها وحدودها لتؤثّر في مجمل الأوضاع القائمة في ذلك المحيط كلّه، فقريش كانت تدرك أنّ انتصارها على المسلمين سيعطيها قوّةً ودفعاً إضافيين يلزمانها لإثبات صحّة ما هي عليه من جهة، وللتضييق على التجربة الوليدة التي ستكون الهزيمة لها سبباً لتقويضها ولانقلاب الكثير من الناس المتربصين عليها، والمسلمون كانوا يدركون أنّ انتصارهم على قريش هو حسمٌ للخيار الذي اختاروه وهو "الإسلام"، وهو من جهةٍ أخرى "تثبيت للوجود" وطريق للإعتراف بذلك الوجود من الآخرين، ولهذا نجد أنّ كلّ طرفٍ منهما قد استجمع كلّ أسباب القوّة الممكنة ليحقّق الهدف المراد له.
وهكذا دخل يوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية المباركة التاريخ من بابه الواسع عبر الإنتصار الكبير الذي حقّقه المسلمون في تلك المعركة وهم على قلّة عددهم وعدّتهم في مقابل قوّة قريش التي كانت ثلاثة أضعاف قوّة المسلمين، وما زاد في عظمة ذلك الإنتصار وجعله مهيباً عند عموم الناس عدد القتلى والأسرى من جيش قريش، حيث بلغ عدد القتلى سبعين رجلاً والأسرى اثنين وسبعين رجلاً في مقابل اثنين وعشرين شهيداً من المسلمين فقط، وهذا ما لعب دوراً مهمّاً بعد المعركة أيضاً في اشتداد عزيمة المسلمين وفي الإحباط الذي أصاب المجتمع القرشي الجاهلي بشكلٍ عام وكلّ الذين كانوا يأملون من ذلك الجيش غير الذي حصل فعلاً.
ولا شكّ أنّ العوامل التي نتج عنها ذلك الإنتصار الكبير هي التي ينبغي أن تكون محلّ الإهتمام بالبحث والدراسة ليستفيد منها المسلمون في أيّ واقعٍ يعيشون فيه ويواجهون تحدّياً لطريقتهم في الحياة ونظرتهم إليها، كما هي الحال في هذا الظرف العصيب الذي تمرّ الأمّة فيه بمرحلةٍ خطيرةٍ بسبب اشتداد الهجمة الإستكبارية على الإسلام التي تقودها أمريكا الشيطان الأكبر بالدرجة الأولى وكلّ القوى العالمية التي تخاف على مصالحها من اليقظة الإسلامية المعاصرة التي سجلت تقدّماً مهمّاً في الكثير من البلدان الإسلامية، وإن لم يكن هذا التقدّم قد وصل إلى النتائج المرجوّة منه حتّى الآن، ووقفت تلك القوى عبر الأنظمة العميلة التابعة لها بالمرصاد للنهوض الإسلامي كما يحدث الآن في الجزائر وتركيا ومصر وتونس والمغرب، وكذلك عبر التركيز على الخطر الذي يتهدّد المنطقة الشرق أوسطية من التحالف الإيراني-السوداني المرتكز على قاعدة الإسلام، وكذلك من خلال المحاولات المتعدّدة على المستوى السياسي لوقف الإنتفاضة المباركة في فلسطين ولوقف عمليات المقاومة الإسلامية التي ما زالت ترفع السلاح في وجه الإحتلال الصهيوني عبر العمليات الجهادية التي ينفّذها المجاهدون المسلمون في الجنوب والبقاع الغربي.
لهذا فإنّ معركة بدر بظروفها الموضوعية التي أحاطت بها وبالنتائج التي أسفرت عنها ستبقى الحجّة البالغة لله عزّ وجلّ على كلّ الأمّة الإسلاميّة عبر العصور، إذ أنّها أعطت للمسلمين النموذج الذي أثبت قدرة القلّة في العدد والعدّة من الإنتصار على القوى الكبيرة والقوية في التجهيزات القتالية والأعداد البشرية، إذا أخذت القلّة بعوامل النصر الإلهي كما فعل المسلمون في معركة بدر التي خلّدها الله في القرآن الكريم بقوله تعالى: {ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلّة فاتقوا الله لعلّكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتونكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين وما جعله الله إلاّ بشرى لكم ولتطمئنّ قلوبكم به وما النصر إلاّ من عند الله العزيز الحكيم}، وقوله تعالى:{كم من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}.
فالمطلوب منّا في هذه المرحلة الحسّاسة من تاريخ الأمّة الإسلامية هو أن يكون لدينا إيمان أهل بدر وروحية المسلمين تلك لنستطيع الإنتصار على كلّ عوامل الهزيمة التي تريد أن تجعلنا أسرى الواقع المحيط بنا الذي يدعو الأمة عبر الدعاية الإستكبارية وأصوات المنهزمين الذين رضوا لأنفسهم أن يكونوا الأبواق الناطقة عن القوى الإستكبارية الشيطانية إلى الركون والإستسلام مع ما في ذلك من هدرٍ لكرامة الأمة وعزّتها ومن نهبٍ وسلبٍ لثرواتها ومصادرةٍ لحريتها وقرارها.