-
المجموعة: مقالات سيرة
-
تاريخ النشر
-
اسرة التحرير
-
الزيارات: 4192
قال الله تعالى: {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون، الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين، فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}، (59-61-آل عمران).
هذه الآية المباركة هي المعروفة عند المسلمين بآية "المباهلة" التي تشير إلى الحادثة التاريخية المعروفة التي جرت زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما جاءه وفد من "نصارى نجران" يضمّ كبار أحبارهم ورهبانهم ليستطلعوا من النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) عن حقيقة الدعوة التي يدعو إليها بعدما تمكّنت بجهاد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المهاجرين والأنصار من تأسيس نواة الدولة الإسلامية في مجتمع المدينة، وبعد المعارك التي انتصر فيها المسلمون فزادتهم قوّةً وبأساً، وبعد التوسّع في حركة انتشار العقيدة الجديدة على مستوى الجزيرة العربية وأطرافها.
والذي نريد أن نؤكّده من خلال قصة المباهلة هذه "أنّ الإسلام هو الدين الذي يدعو إلى توحيد الإنسانية جمعاء لتعيش العبودية لله عزّ وجلّ" ولهذا تضمّنت "آية المباهلة" الدعوة إلى التحدّي المباشر بين النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن صحبهم في مواجهة الرهبان والأحبار من "وفد نجران" لإثبات صحة الرسالة الإسلاميه من جهة، ولإثبات شمول دعوتها لكلّ أهل الأديان السابقة على الإسلام، وأنّه يشكّل الإستمرار الإلهي لخطّ الرسالات لأنّه الرسالة الخاتمة التي تضمّنتها وزادت عنها بما يحقّق للإنسان كلّه الضمانة الأكيدة للحياة ذات الأبعاد الإلهية والعيش بسلامٍ وأمان بدلاً من الإنقسامات المتنوّعة التي أدّت إلى الإختلاف الكبير بين الشعوب والأمم والأديان.
وانطلاقاً من أنّ أهل الأديان السماوية من غير المسلمين الذين هم أقرب الناس إلى الدين الإسلامي، توجّه الله بالخطاب إلى المسلمين لكي يحاولوا التقرّب منهم نظراً للقاسم المشترك الأساس الذي يجمعهم وهو "الإعتقاد بالله" ليكون هذا الأمر الذي هو محلّ الوفاق مبدأً للحوار والنقاش للوصول إلى الإعتقاد الصحيح بالله سبحانه وإبعاد كلّ الشبهات الطارئة عند غير المسلمين عنه عزّ وجلّ، وقد نطق القرآن بذلك في الآية الكريمة: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}.
من هنا اعتبر الله سبحانه أنّ البداية لتوحيد المجتمع الإنساني كلّه ليكون إلهياً يبدأ من توحيد أهل الأديان السماوية الذين يوجد بينهم القاسم الأساس الذي يعتقدون به جميعاً.
إلاّ أنّ المؤسف حقّاً والمؤلم أنّ تلك الدعوة الإلهية لم تلق التجاوب المطلوب من أصحاب الرسالات السماوية الأخرى، ممّا أدّى بالتالي إلى أن يقف أصحاب كلّ عقيدة منها عند حدودهم الخاصة بهم ولم يقبلوا بالحوار الذي كان يمكن أن يصهرهم جميعاً، فبقي المسيحي عند مسيحيّته واليهودي عند يهوديّته محصوراً داخلها وفي إطارها.
ولهذا نقول بأنّ أصحاب الشأن في الديانات غير الإسلامية هم المعنيّون مباشرة والمسؤولون قبل غيرهم عن الإستجابة لذلك النداء الإلهي الذي ليس له وقتٌ خاص، بل هو نداءٌ مستمر طالما الحياة مستمرّة، والذي يدعونا إلى تحميل رجال الدين من غير المسلمين المسؤولية عن عملية بدء الحوار هو ما ينطق به القرآن الكريم بقوله :{إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أُمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون}.
وما نعتقد أنّه من أسباب عدم الإستجابة لذلك النداء الإلهي هو تلك العصبية التي عاشها أهل كلّ دين تجاه ما يؤمن به هو فقط، وهذا ما يؤكّده القرآن أيضاً من خلال الآية الكريمة :{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة في ما كانوا فيه يختلفون}.
مُضافاً إلى ما سبق هناك أيضاً السبب الأساس الذي منع من مباشرة عملية الحوار المنفتح للوصول إلى القناعات المشتركة وهو "الخوف من قوّة المنطق والحجّة عند المسلمين في مقابل حجج الآخرين"، وهذا ما دفع بذلك الوفد النجراني من عدم المباهلة مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما رأوه قد اصطحب ابنته وصهره وولديه الحسن والحسين(عليهم السلام)، لأنّهم أيقنوا بأنّ العذاب واقع بهم أكيداً إن هم أتمّوا العملية تلك في مواجهة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ورجعوا على أعقابهم رافضين الدخول في الدين الذي ينفي عن الله عزّ وجلّ كلّ أشكال الوثنية التي تسرّبت إلى العقائد الإلهية الأخرى بفعل التحريف الذي تعرّضت له كما يخبر القرآن عن ذلك بقوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون}، وكذلك قوله تعالى: {فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون}.
لذلك كلّه نقول :" إنّ الإسلام هو دعوة صريحة ومنفتحة ومستعدّة في أيّ وقتٍ للحوار والنقاش"، لأنّ "توحيد المجتمع الإنساني هو الغاية المنشودة لهذا الدين" الذي يضمّ التراث الإلهي كلّه، وهو نفسه الدين الذي أنزله الله على نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أكّد الله هذه الحقيقة بقوله تعالى :{شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.
من هنا يؤمن المسلمون بالأنبياء كافّةً ويعتبرون ذلك جزءاً لا يتجزّأ من الإعتقاد بنبيّهم وأنّ الكفر بواحدٍ منهم هو كفرٌ بالجميع، ولهذا عاش المسلمون الإنفتاح على أهل الرسالات السماوية الأخرى وتعاملوا معهم على أنّهم أصحاب رسالات سماوية لعلّ ذلك يؤدّي في يومٍ من الأيام إلى بدء عملية الحوار والنقاش كما دعانا القرآن الكريم بقوله تعالى: {أدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، وهذه الدعوة ما زالت قابلة لأن يتجاوب معها كلّ البشر من أهل الأديان وغيرهم، والمسلمون حاضرون للإستجابة إلتزاماً بأمر الله وبقلبٍ مفتوح وعقلٍ منفتح لتحقيق الحلم الكبير والهدف الرئيس الذي تبحث عنه الإنسانية جمعاء.
والحمد لله ربّ العالمين