دور كظم الغيظ
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2158
وبالجملة فـ "كظم الغيظ" من الخُلُق الحسن الذي يجب أن يتحلّى به المؤمن، لأنّه مظهرٌ من مظاهر التربية الإسلامية الأصيلة التي تربّي الإنسان على رفض الإنتقام للدوافع الشخصية أو للأسباب الإنفعالية التي لا تخلو منها الحياة العادية بمجرياتها اليومية نتيجة الإحتكاكات المباشرة مع الآخرين وما يستتبع ذلك من إمكانية التصادم في قليلٍ أو كثير مع شرائح متفرّقة من الناس المختلفي الطبائع والأذواق والأهواء.
من هنا يؤكّد الإسلام على أتباعه الإلتفات إلى رسالية هذا الدين في التعامل مع الآخرين، ولإعطاء النموذج الرسالي للإنسان الملتزم للآخرين ليحذوا حذوه ويقتدوه في ذلك.
ولهذا يمكن اعتبار"كظم الغيظ" من أحسن وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملياً ويمارسه الإنسان المسلم من مواقع الإلتزام ليعكس الصورة المشرقة والجميلة عن عظمة هذا الدين الذي يرفع من مقام الإنسان من المستوى المتدني الغرائزي إلى الروحي المتسامي والمتعالي على الصغائر والإستفزاز وغير ذلك من المعاني السلبية التي تصدر عادة عمّن لم يعرفوا تلك الدرجة من الإلتزام بالعقيدة الإلهية الصحيحة.
ومن هنا نجد الأحاديث الكثيرة التي تؤكّد على أهمية التلبّس بهذا الخُلُق النبيل ومنها الرواية الواردة عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) وما حدث له فيها مع جاريته وهي تسكب له الماء من إبريقٍ كان في يدها فوقع على رأس الإمام فشقّه، فعندما رفع رأسه قالت له "والكاظمين الغيظ" فقال لها "كظمت غيظي" ثمّ قالت "والعافّين عن الناس "قال "عفى الله عنك" ثمّ قالت "والله يحب المحسنين" قال (عليه السلام) "فاذهبي فأنتِ حرّة لوجه الله"، وما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال :(ألا أخبركم بخير خلائق الدين والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك وإعطاء من حرمك).
وبالتأمّل في هذا الحديث النبوي تبرز أهمية "كظم الغيظ" لأنّ عادة الإنسان النابعة من غريزته تدفعه إلى الردّ على ظلم الآخرين بمثله، وعلى قطع من قطعه والإساءة إلى من أساء إليه، والمنع عمّن منع عنه، بينما نرى أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي بخلاف ما قد تدفع إليه غريزة الإنسان، ليكون هذا طريقاً للإرتقاء في درجات السمو الإنساني والإرتفاع في المقام الروحي والمعنوي للإنسان الذي هو القياس الحقيقي لإنسانية الإنسان وليكون بذلك أيضاً واعظاً ومبلّغاً ونموذجاً للآخرين للتحرّر من التعامل الغريزي الذي يمارسه في مثل تلك الحالات عادة.
لهذا كلّه كان "كظم الغيظ" مورداً للمدح الإلهي والثناء النبوي، ولهذا طبّق أئمتنا هذا الخُلُق النبيل في حياتهم وبأرفع الدرجات وأجلى الصور وأبهاها ففرضوا بذلك احترامهم على القاصي والداني، والمؤالف والمخالف، حتّى أنّ الإمام السابع موسى بن جعفر عليهما السلام لُقِّب بـ :"الكاظم" لشدّة اشتهاره بهذه الصفة الأخلاقية الجليلة.
من هنا ينبغي على المؤمنين الرساليين الذين يحملون هذا المشروع الإسلامي الإستنهاضي والتغييري في هذا الزمن العصيب أن يجعلوا "كظم الغيظ" عنواناً لهم ولباساً لهم ليستطيعوا من خلاله أن يثبتوا أنّهم أهل لحمل لواء التغيير المنشود على مستوى هذه الأمة، وليكون هذا الخُلُق وسيلة لدخولهم إلى عقول وقلوب الناس الآخرين من المسلمين الذين ما زالوا بعيدين عن هذا المشروع الكبير، وكذلك إلى قلوب وعقول الحيارى والتائهين من أبناء الإنسانية المعذّبة في هذا العالم.
ولا بدّ من الإشارة أخيراً إلى أنّ "كظم الغيظ" من أكثر الصفات الأخلاقية أجراً وثواباً عند الله عزّ وجل، كهذه الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام): (من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمناً وإيماناً، يوم القيامة، وقال: ومن ترك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا غضب، حرَّم الله جسده على النار).
والحمد لله ربّ العالمين