الحوار طريق الإقناع
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2566
وقد علّل الله بطلان الإكراه بأنّ طريق الرشد وطريق الغي قد تمّ تحديدهما وبيان النتائج والآثار الإيجابية أو السلبية المترتبة على كلٍّ منهما عندما يختار الإنسان أحدهما في الحياة الدنيا، فالرشد هو عبارة عن التزام خطّ الهداية، والغيّ عبارة عن التزام خطّ الضلالة.وهذه الآية هي من أهم الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبن على السيف ولم يقم وينتشر ويؤسّس الدولة بالسيف والإرهاب والإكراه، وإنّما عن طريق العقل وفتح باب الحوار مع الجميع للوصول إلى قناعة التوحيد ومنها إلى كلّ متفرّعاتها من العقائد والقوانين الأخرى التي تضبط حركة الإنسان فكرياً وعملياً. لهذا يؤكّد الإسلام عندما نتعامل مع الآخرين ونتعاطى معهم أن نأخذ من الحوار والجدال والنقاش وسائل وأساليب نتخاطب فيها ونتواصل مع الآخرين على مستوى كلّ القضايا التي يتمّ طرحها، من دون أن يجبر أحد بقوّته ورأيه الآخرين ليكرههم على تبنّي آرائه وطروحاته، ولو كانت غير متوافقة مع المنطق السليم للأشياء أو مخالفة لأبسط القواعد والمبادئ الإنسانية والأخلاقية العامّة.
لهذا رفض الإسلام عبر تاريخه أن يجبر الآخرين من أتباع الديانات الأخرى والسماوية منها على وجه الخصوص أن يدخلوا في الإسلام كرهاً ورغماً عن إرادتهم وقناعاتهم، بل ترك لهم ملء الحرية والإختيار في هذا الأمر، وذلك لأنّ كلّ ما يتمّ فرضه بالقوّة وعلى خلاف المعتقدات التي يحملها البشر تضعف في نظر الإسلام قوّة العقيدة ومتانة طروحاتها ولو كانت هي السليمة والصحيحة والأجدر بالبقاء والإتّباع.
من هنا جاءت الآيات التي تدعو المسلمين الذين يشعرون بالمسؤولية تجاه البشرية عموماً إلى استعمال أساليب الحوار، وقال تعالى في هذا المجال: {أُدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة}، ثمّ يقول متبعاً: {وجادلهم بالتي هي أحسن}، ثمّ يستكمل الله سبحانه هذه العملية التربوية في تقريبٍ آخر بمنع تسفيه عقائد المخالفين بالطرق الإستفزازية الرخيصة التي تلعب في الغالب دوراً سلبياً سيئاً، ويمكن أن تكون سبباً في التعصّب الأعمى للعقائد المنحرفة، باعتبار أنّ كلّ معتقدٍ يرى صوابية ما هو عليه من اعتقاد بغض النظر عن صحّته أو بطلانه، وفي هذا يقول الله عزّ وجلّ: {ولا تسبّوا الذين يدعون من دونِ اللهِ فيسبّوا اللهَ عدواً بغير علم}.
ولم يقتصر الله في دعوتنا إلى أن تؤمن الناس بالحوار والإقناع فقط، بل أعطانا أمثلة على الحوار مع الآخرين ليعطي لدعوته لنا مصداقاً عملياً، ولهذا يقول في معرض الحوار مع أهل الأديان والكتاب :{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نُشرِك به شيئاً}.
من تلك المنطلقات نرى أنّ الإبتعاد عن الكثير من المؤتمرات التي تُعقد على مستوى المشكلات العالمية المعاصرة لإيجاد حلولٍ لها أو لدراسة المقترحات الأنفع والأجدى للوصول إلى الحلول المنشودة لا يتوافق مع الهدف المطلوب إسلامياً، خاصة إذا كانت المشاركة ممّا يمكن أن تؤدّي دوراً إيجابياً محموداً أو تمنع من اتخاذ قرارات سلبية بنتائجها وآثارها على المجتمعات والشعوب الإسلامية، وعلى الأقل فإنّ المشاركة تؤدّي إلى تبيّن آراء الإسلام بوضوح ويسمعها كلّ سكان العالم، وهذه أقل فائدة يمكن أن تحصل من خلال أمثال هذه المؤتمرات.
من هنا، فإنّ القرار الذي اتّخذته الجمهورية الإسلامية بالمشاركة في مؤتمر "السكان والتنمية" الذي انعقد أخيراً في القاهرة كان قراراً حكيماً، حيث لعبت المشاركة هذه إلى جانب الدول الإسلامية الأخرى في تعطيل اتخاذ قرارات خطيرة على مستوى قضايا إباحة الإجهاض وتحرير العلاقات الجنسية بين المراهقين من الجنسين من أيّة ضوابط شرعية أو قانونية أو أخلاقية، مع ما يترتّب على تشريع هذه القضايا من أخطار تفكيك الأسرة والإنحلال الأخلاقي الرهيب.
لهذا لا مانع شرعي من المشاركة في هذه المؤتمرات الهادفة إلى تحسين الوضع الإنساني العام عبر إيجاد الحلول المناسبة التي لا تتجاوز معتقداتنا الإسلامية والتوجُّهات الإلهية بوجهٍ عام، وبالخصوص إذا كانت تلك الحلول ممّا يمكن أن تفرض ولو كانت نتائجها سلبية على المسار العام للأمّة الإسلامية من النواحي العقائدية والعمليّة.
والحمد لله ربّ العالمين