التوسيط التجاري "مشروعيّته وموارد جوازه"
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2158
وقد أدّى كلّ ذلك إلى أن يعتمد الإنسان في تأمين متطلبات حياته إلى السوق الإستهلاكية، ويكاد أن يختفي نمط التخزين للمؤونة في عالمنا بالشكل الذي كانت تعتمده الناس فيما قبل هذا العصر يوم كانت حياة المجتمعات قائمة على الإنتاج الزراعي البدائي بشكلٍ أساس مع إنتاج صناعي لا يتعدّى الإحتياجات الضرورية في هذا الجانب.
ومن أبرز مميزات وسمات هذا العصر هو توسّع نطاق العمل التجاري وتعدّيه عن التجارية، حيث أنّ دور هذا العامل التوسيطي كان محدوداً جداً للعمل في العمل التجاري في العصور السابقة، إلاّ أنّه في هذا العصر تحوّل إلى عملٍ رئيسي يعمل فيه الأعداد الهائلة من البشر في كلّ أنحاء العالم تقريبا، ولا تكاد تخلو منه أيّة عمليةٍ تجارية صغيرة أو كبيرة، سواء ضمن حدود البلد الواحد، أو في العلاقات التجارية ما بين الدول، أو بين الشركات المنتجة والأسواق الإستهلاكية في مختلف أنحاء العالم.
والقاسم المشترك بين كلّ أنواع عمل السمسرة و التوسيط التجاري هو النسبة المعيّنة من الأرباح التي يحصل عليها الوسيط بحسب حجم المبيعات أو تحديد أجرة معينة، أو أجرة ونسبة كما هو المتعارف في عمل البعض من الوسطاء.
والذي يعنينا من ذكر هذا العمل هو بيان الموقف الشرعي من أصل جواز هذا العمل، و تحديد الموارد التي يجوز فيها، و التعرّض للإشكالات التي يمكن أن تكون موجودة في بعض الموارد المتعلّقة بعمل التوسيط التجاري.
أولاً: جواز التوسيط التجاري: ممّا لا شكّ فيه أنّ العمل مباح في الإسلام ضمن حدود الحلال ، و كلّ عمل محلّل يستحقّ الإنسان الأجرة عليه لأنّه يبذل الجهد و الطاقة الممنوحة له ويستعين بها على تدبير أمور معاشه، و لا يفرق الحال في الجهد المبذول للإستحقاق بين أن يكون قليلا" أو كثيراً لطالما أنّ هذا العمل الذي يعمله الإنسان كان من النوع المحترم من الناحية الشرعية.
ولا شكّ أنّ عمل الوسيط التجاري يندرج تحت عنوان العمل المباح بالمعنى العام وفق التقسيم الإسلامي للعمل إلى المحلّل و المحرّم، و قد وردت نصوص متعدّدة تدلّ على إباحة عمل هذا الإنسان بحدّ ذاته، ممّا يعني أنّه لا توجد موانع شرعية أمام الناس الذين يمارسون هذا النوع لتدبير أمور حياتهم، و من تلك الروايات ما يلي:
1ـ صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الصادق (عليه السلام): (في رجل قال لرجل :بع ثوبي هذا بعشرة دراهم فما فضل فهو لك، قال(عليه السلام):ليس به بأس)(1).
2ـ عن أبي ولاد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لا بأس بأجر السمسار، إنّما يشتري للناس يوما" بعد يوم بشيء مسمّى، إنّما هو بمنزلة الأجراء مثل الأجير)(2).
3-عن عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (سأله أبي وأنا حاضر فقال: ربما أمرنا الرجل يشتري لنا الأرض أو الدواب أو الغلام أو الخادم، ونجعل له، فقال أبو عبد الله(عليه السلام) لا بأس به)3.
وبهذا يتبيّن أنّ أصل هذا العمل ممّا لا مانع منه، ويدخل في باب العمل ذي القيمة والمالية بحسب ما هو المتعارف وفق اختلاف الأزمان ومقتضيات الظروف.
وقد قال الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "الحلال والحرام في الإسلام": (أما السمسرة في غير هذا الموطن "بيع الحاضر للبادي" فلا حرج فيها، لأنّها من نوع الدلالة والتوسّط بين البائع والمشتري، وكثيرا ما تسهل لهما أو لأحدهما كثيرا من السلع والمنافع).
وقد أصبحت "الوساطة" التجارية في عصرنا ألزم من أيّ وقتٍ مضى، لتعقّد المعاملات التجارية، ما بين استيرادٍ وتصدير، وتجّار جملة، وتجّار تجزئة، وأصبح السماسرة يؤدّون دوراً مهما.
ولا بأس أن يأخذ السمسار أجرة، نقودا معينة أو عمولة بنسبةٍ معينة من الربح أو ما يتّفقون عليه.
قال النجاري في صحيحه: لم ير إبن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأسا. وقال ابن عباس: لا بأس بأن يقول: بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك، وقال ابن سيرين: إذا قال: بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك فلا بأس به. وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ("المسلمون عند شروطهم")(4).
ثانيا: تحديد موارد الجواز: ممّا تقدّم يتبيّن أنّ التوسيط التجاري ليس أصلاً بحدّ ذاته، وإنّما يتفرّع عن الأصل وهو "التجارة"، وهذا يعني أنّ موارد جوازه مشروطة بموارد جواز التجارة ويحرم في موارد حرمتها.
ومردّ هذا الأمر إلى أنّ الإقتصاد في الشريعة الإسلامية قائمٌ على أساس ما يكون داخلاً في مفهوم "المنافع المحلّلة المقصودة" التي يتنافس الناس عليها أو يبذلون الأثمان في مقابلها، وهو ما يعبّر عنه بـ "الإقتصاد الواقعي" القائم على مقولة "حفظ مصالح المجتمع" من ضمن رؤية عقائدية متكاملة وهادفة لتربية البشرية بالإلتزام بحدود المنافع المشار إليها التي يجوز بيعها وشراؤها وإدخالها في كلّ أنواع العقود المحلّلة في الإسلام كالإجارة والزواج أو الإيقاعات كالطلاق مثلاً وغير ذلك.
وهذا بخلاف الإقتصاد المعاصر القائم على مجاراة رغبات الناس بغض النظر عن مراعاة عنوان "المنافع المحلّلة" من جهة، أو عنوان "الواقعية" في تحديد الإحتياجات.
ولا يتوجّه علينا الإشكال في هذا المجال بأنّ هذا الكلام هو دعوة إلى رفض ما ابتدعته المدنية المعاصرة من احتياجات متجدّدة، وذلك لأنّنا نسلِّم من زاوية عقائدية بأنّ الإسلام لا يحرِّم التطوّر المادي والتقني في أساليب الحياة بما يسهِّل حياة الناس ويرفع عنهم الكثير من أنواع المشقّات التي كانوا يتكبّدونها فيما مضى، وإنّما يحارب الإسلام توجّه الإنتاج نحو ابتكار أنواع محدّدة ومؤطّرة بعناوين يتحتّم على المجتمع أن يطرحها جانباً وأن لا يعمل على ترويجها بين أفراده، وكلّ هذه العناوين يجمعها قاسمٌ مشترك هو "المنافع غير المحلّلة وغير المقصودة بحكم الشارع المقدّس" وإن كانت مقصودة من بعض الجماعات أو الأفراد الذين لا ينطلقون في الحياة من المنطلق العقائدي الإسلامي كما هو الأمر الجاري حالياً في العالم المعاصر.
من هذا التوجّه فإنّ الإسلام يريد من الناس أن تسعى لكسب المال وتجميع الثروة من وجوه الحلال التي ترتقي بهذا الأمر من معناه المادي المحدود بالإحتياجات الدنيوية إلى المستوى المعنوي الأرفع وهو كونه وسيلةً من وسائل الطاعة والتقرّب إلى الخالق العظيم تبارك وتعالى.
بعد هذا ندخل إلى تحديد العناوين التي لا يصحّ المتاجرة بها، ولا يصحّ التوسيط التجاري فيها، ويكون الكسب الناتج عنها بالتالي من نوع الكسب المحرّم الذي لا يجوز تملّكه من الناحية الشرعية مُضافاً إلى الإثم الذي يحصل إضافة إلى ذلك لأنّه لا يدخل تحت عنوان "المنافع المحلّلة"، مع ما يؤدّي إلى الإضرار بالبشرية أو حرفها عن المسار، وهذه العناوين هي التالية:
العنوان الأول: الكسب عن طريق الإغراء بالجهل وتثبيت الجهالة عند الناس وتقوية العقائد المنحرفة أو الخرافية كبيع الأصنام والصلبان وما شابه ذلك.
العنوان الثاني: الكسب عن طريق الإستغفال والإضلال، وبيع كتب الضلال تدخل في هذا العنوان، ومن هذا القبيل كسب الماشطة والنجش والكهانة ومدح من لا يستحق.
العنوان الثالث: تقوية الأعداء وبيع السلاح لهم، بل كلّ معاملة تؤدّي إلى تقويتهم وإلى إضعافنا في المقابل في أيّ جهةٍ كانت، عسكرية أو إقتصادية وغير ذلك، وإسرائيل "الكيان الغاصب" خير مثال في هذا العنوان.
العنوان الرابع: الحصول على المال عن طريق الإنتاج أو البيع والشراء أو التبادل لصناعات يجلب استخدامها الضرر على البشرية عموماً، أو هي عديمة الجدوى، ويدخل في هذا العنوان تبادل الخمور والأعيان النجسة وآلات القمار والغش.
العنوان الخامس: الأعمال الكيفية التي تتصف بعدم الجدوى أولها أضرار ومفاسد أخلاقية وإجتماعية كاللهو والغناء والقيادة والهجاء للمؤمنين وغير ذلك.
العنوان السادس: الأعمال التي تؤدّي إلى الإفراط في التزيين مثل صنع أو تبادل الأواني الذهبية والفضية ممّا يدخل تحت عنوان الإسراف والتبذير المحرّمين شرعاً وغير المقبولين عرفاً.
العنوان السابع: الأعمال الدينية كتعليم الصلاة وأحكام الدين عموماً، وخصوصاً في موارد الإبتلاء، فالإسلام يحرّم على الإنسان التكسّب بهذه الأمور لأنّه يعتبرها أعلى من مستوى المعاملات المادية العادية، أو لأنّ التكسّب بها يمنع من الإخلاص فيها ومن نيّة التقرّب إلى الله بواسطتها.
والقاعدة العامّة في تحريم التكسّب بكلّ الأنواع المذكورة هو القاعدة التي تقول بـ"أنّ الله إذا حرَّم شيئاً حرّم ثمنه".
وممّا لا شكّ فيه أنّ التوسيط التجاري والسمسرة في التجارة بتلك العناوين هو نوع استفادة وإن كان السمسار ليس مالكاً للسلعة مورد التبادل، وإنّما هو مجرّد وسيط، إلاّ أنّه من الذين يصدق عليهم ممن يتعاطون التجارة بها فيصحّ إنطباق عنوان التحريم على عمله ويكون الكسب الناتج عنها من "السحت المحرم".
ولا بدّ من الملاحظة إلى أنّ القاعدة المذكورة لا تجري في حال كان للأشياء المحرّمة منافع محدّدة تحصل عنها وتبذل الناس المال بإزائها، كما هو المتعارف في هذا الزمن من بيع الدم البشري لمزجه بدم إنسانٍ آخر محتاجٍ إليه، أو بيع بعض أنواع كلاب الصيد أو الحراسة أو الكلاب البوليسية المدرّبة، أو التجارة بجلود الحيوانات الميتة الداخلة في بعض أنواع الصناعات كالألبسة والأحذية وغير ذلك.
وأمّا في غير موارد المنفعة من العناوين التي ذكرناها، فبطلان التجارة فيها والتوسيط التجاري كذلك مرجعه إلى "إعتبار المالية في العوضين ومالية الأشياء باعتبار منافعها الموجبة لرغبة العقلاء وتنافسهم فيها "وما دام الشيء عديم المنفعة أو عديم المنافع الظاهرة فليس له مالية فلا تصحّ المعاملة عليه، وإسقاط المالية من الناحية الشرعية ينتج حرمة أيّة استفادةٍ مالية لمن كانت السلعة تحت يده أو لمن يتوسّط في بيعها كذلك، وينطبق على هذه الأنواع من الكسب المحرّم قوله تعالى :{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}(5).
ولا بأس بذكر بعض الآيات والروايات التي تتعرّض لبيان حرمة التكسّب تجارةً وتوسيطاً وسمسرة من بعض السلع الداخلة في العناوين السابقة الذكر، فمن القرآن الكريم نورد ما يلي:
1- {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}(6) تدلّ على تحريم التكسّب بالعنوان الأول.
2- {فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون}(7) تدلّ على العنوان الثاني ببعض موارده.
3- {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا}(8) تدلّ على حرمة التكسّب من البغاء والقيادة وتدخل في العنوان الخامس.
ونورد من الأحاديث الشريفة ما يلي:
1- صحيحة عمر بن أذينة عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (كتب إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً، فقال (عليه السلام): لا).(9)
2- موثقة السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)، مثال: (السحت ثمن الميتة).(10)
3- صحيحة أبي بصير أنّه قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): أجر المغنية التي تزفّ العرائس ليس به بأس وليس بالتي يدخل عليها الرجال).(11)
4- موثقة زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام) قال: (لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه).(12)
5- عن الحسن بن شعبة في كتاب "تحف العقول" عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: (... وأمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمرٍ يكون فيه الفساد ممّا هو منهي عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا، أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش والطير، أو جلودها، أو الخمر أو شيء من وجوه النجس فهذا كلّه حرام ومحرّم، لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب فيه، فجميع تقلّبه في ذلك حرام، وكذلك كلّ بيع ملهو به، وكلّ منهي عنه ممّا يتقرّب به لغير الله أو يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهِبَتُه وعاريته وجميع التقلّب فيه إلاّ في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك).(13)
ولكي نضع جواز عملية "الإستثمار" و"التوسيط التجاري" في موقعها المناسب في العمل التجاري بشكلٍ عام لا بدّ من توضيح رأي الإسلام الدقيق للمسألة وفق المذهب الإقتصادي في الإسلام فنقول "إنّ السياسة الإقتصادية الإسلامية تتجه إلى تضييق الهوّة بين المنتج والمستهلك واستئصال دور عملية المبادلة نفسها كأساس للكسب بصورةٍ منفصلة عن الإنتاج والعمل".(14)
وينتج عن هذا القول إنّ التوسيط هو إستثناء من القاعدة الأساسية للعلاقة التجارية بين عالمي الإنتاج والإستهلاك التي يُفضَّل فيها التواصل المباشر بين هذه العالمين، والتخفيف ما أمكن من دور التوسيط الذي قد يصل في عمليات المبادلة التجارية في عصرنا هذا إلى حلقاتٍ متعدّدة، وكلّ حلقة منها تلعب دوراً سلبياً على مستوى الأسعار التي تصل أحياناً إلى أضعاف سعر الكلفة الإنتاجية للسلعة، والسبب أنّ كلّ حلقة تضيف ما ينبغي أن تحصل عليه من الربح إلى الثمن الذي يدفعه المستهلكون المباشرون للسلع.
ومن جهةٍ أخرى نرى أنّ المذهب الإقتصادي في الإسلام، وتحديداً في الجوانب الإنتاجية يحرّم الحصول على المال والثروة بشكلٍ منفصل عن العمل والجهد الذي يعتبره المصدر الأساس له، لأنّه يرى في هذا النوع من تحصيل المال ضرراً على المجتمع ككل، باعتبار أنّه يُنْتِجُ أثراً سلبياً وهو "تحميل الأكثرية أعباءً إضافية تؤثّر على التوازن العام بين الأفراد والطبقات".
وقد ورد الكثير من الروايات المحرّمة لهذا النوع من التوسيط، فمن ذلك:
1_ حديث إسحاق بن عمار عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: (لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة، ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به، إذا أصلح فيها شيئا)15.
2_ محمد بن مسلم عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه (سأله عن الرجل يتقبّل العمل فلا يعمل فيه، ويدفعه إلى آخر فيربح فيه؟ قال(عليه السلام):لا، إلاّ أنّه يكون قد عمل شيئا)16.
3_ حديث الحلبي عن الصادق(عليه السلام):(في الرجل يستأجر الدار ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به. قال(عليه السلام): لا يصلح ذلك إلاّ أن يحدث فيها شيئا)17.
وهذه القاعدة العامّة تنطبق في كلّ أنواع المعاملات التجارية وعقود المفاوضات من البيع والإجارة والوكالة وغيرها كالمزارعة والجعالة، ومنها مورد حديثنا عن "الاستثمار"، فلو كلّف إنسان بعملية من هذا القبيل ثمّ نقل العمل المطلوب منه إلى غيره بنسبةٍ أقل أو بأجرةٍ أقل من دون أن يكون الناقل المكلّف قد قام بجزءٍ ولو قليلا من العمل يبرّر له اكتساب الفارق كان هذا كسباً محرّما ولا يملكه.
وبالإستناد إلى القاعدتين المذكورتين "التبادل المباشر بين عالمي الإنتاج والإستهلاك" و"تحريم الكسب بلا عمل " يمكن أن نستنتج أنّ الإقتصاد الإسلامي لا يحبّذ ولا يشجّع عمليات السمسرة التي قد تتضمّن القليل من العمل وتترتّب عليها عمولات ضخمة جداً تفوق قيمة العمل والجهد المبذول بأضعافٍ كثيرةٍ جدا، كما في عمولات صفقات السلاح أو الصفقات التجارية الضخمة التي تتجاوز أرقامها الأرباح المادية للفرد، بحيث أنّ عمولة الصفقة الواحدة منها قد تكفي لنفقات سنواتٍ عديدة من العيش الرغيد. وهذا ما نراه في هذا العصر الذي جمع فيه بعض السماسرة أموالاً تفيض عن إمكانات وموازنات بعض الدول أحيانا، بل قد تفيض عن الدخل القومي لبعض الشعوب كلبنان والأردن والعديد من الشعوب الآسيوية والإفريقية وغيرها.
و انطلاقا" من القاعدة القائلة بأنّ التوسيط التجاري فرع العملية التجارية ، فليس من المقبول في الإسلام أن تتجاوز أرباح هذا العمل الأرباح المقدّرة لأصل العمل التجاري ، بل ينبغي أن لا تصل إلى مستوى نفس أرباحه بسبب المحاذير التي ذكرناها من جهة ، و للأحاديث التي أوردناها عن المبرر الواقعي لتحصيل الأرباح بشكلٍ عام .
صيغتا التوسيط التجاري : و هذا العمل له صيغتان أساسيتان هما :
الصيغة الأولى : أن يكون هذا الوسيط مستقلا" في العمل ،بمعنى أنّه ينقل السلعة إلى نفسه أولا"بإحدى الصيغ المتعارفة، ثمّ ينقلها إلى غيره وفق معاملات الإنتقال المتّفق عليها في التجارة .
الصيغة الثانية :أن لا يكون الوسيط مستقلا" في العمل ، بمعنى أنّه يعمل لحساب غيره و بطلبٍِ منه ، و يستحقّ على عمله أجرة أو نسبة معينة .
و الصيغة الأولى هي التي يتولاّها التجّار بمختلف مستوياتهم الذين ينقلون البضائع لحسابهم الخاص من مصادر الإنتاج المختلفة ، و هذا العمل قد ورد الحثّ و التأكيد عليه و التركيز على أهميته لما له من المنافع العائدة على العاملين به و على الناس بشكلٍ عام ، لأنّ هؤلاء هم الذين يتولّون نقل فائض إنتاج البشر لبعضهم البعض لتتوفر الإحتياجات الأساسية و الكماليات بين أيدي كلّ الناس الذين لا يمكنهم التخلّي عنها في مجريات حياتهم التفصيلية .
و من النصوص الواردة، النص المذكور في عهد الإمام علي (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر حيث جاء فيه عن التجار: (ثمّ استوصي بالتجار و ذوي الصناعات و أوصي بهم خيرا": المقيم منهم، و المضطرب بماله، و المترفّق ببدنه فإنّهم مواد المنافع و أسباب المرافق، وجلابها من المباعد و المطارح ،في برّك و بحرك، و سهلك و جبلك، و حيث لا يلتئم الناس لمواضعها ، و لا يجترئون عليها) 18.
وأمّا الصيغة الثانية فهي التي يندرج العاملون فيها تحت أحد عناوين ثلاثة في نظام العقود الإسلامية من أبواب المعاملات:
العنوان الأول: "عقد الإجارة" 19: وهي أن يستأجر التاجر مثلا" أو صاحب السلعة إنسانا" ما لمدّة محدّدة و بأجرةٍ معينة من أجل بيع سلعته للناس ، وفي هذه الحالة لا يستحقّ الأجير أكثر من الأجرة المسمّاة في العقد، و ذلك باعتبار أنّ " العقد شريعة المتعاقدين"، وطالما أنّ الأجير قد رضي القيام بالعمل بتلك الأجرة المحدّدة في العقد فليس له المطالبة بالزيادة على ذلك من الناحية الشرعية وفق فقهنا الإسلامي.
و قد تكون الإجارة من أجل العمل في شراء السلعة فالقضية هي ذاتها بالطريقة التي شرحناها.
من هنا فإنّ كلّ زيادة يحصل عليها الأجير بلا مبرّر و مسوّغ شرعي تعتبر كسبا" محرّما" و لا يحلّ لآخذه لأنّ منفعة عمل الأجير هي للمستأجر، و يحصل الأجير في مقابل ما يبذله من عمل على الأجرة المتّفق عليها ضمن العقد .
و لتوضيح الأمر أكثر نورد ما يلي من صورٍ للكسب المحرّم في هذا المجال :
الصورة الأولى : أن يبيع الأجير السلعة بأكثر من الثمن المتّفق عليه على أن يأخذ الزيادة لنفسه بحجّة أنّ مالك السلعة يريد ثمناً معيناً لسلعته، بينما الأجير باعها بأزيد من ذلك، ففي الصورة هذه تكون الزيادة لمالك السلعة وليس للأجير بشيءٍ منها. نعم لو فرضنا في هذه الصورة أنّ مالك السلعة قد أجاز له ذلك، أو أجاز له أخذ نسبة معينة من الأثمان الزائدة عن المتّفق عليها، فحينئذٍ تكون الأرباح الزائدة حلالاً للأجير، أو أن يكون هناك اشتراطٌ ضمن عقد الإجارة لمصلحة الأجير مؤدّاه أنّ الأجير في حال تمكّنه من بيع السلع بأزيد من الثمن المتّفق عليه فله عمولة محدودة منها زيادة على أجرته، فهذا الشرط صحيح ويكون ملزما لمالك السلعة من الناحية الشرعية.
الصورة الثانية: أن يكون أجيرا في شراء السلعة، فلو فرضنا أنّ الشخص البائع في هذا المجال سواء أكان فردا أو جماعة جعلوا لمن يشتري منهم عمولة معينة بسبب تصريف بضائعهم بواسطة الشراء، فهنا في أصل عقد الإجارة فإنّ الأجير لا يستحقّ تلك العمولة، بل هي للمشتري الأصلي الذي يشتري له الأجير، إلاّ أن يكون هناك اشتراطٌ في عقد الإجارة على أن تكون العمولة للأجير، إمّا بتمامها أو بنسبةٍ معينة منها، أو أن يكون حصول الأجير على ثلث العمولة بإجازة ممّن استأجره.
الصورة الثالثة: أن يكون الأجير مكلّفا بالبيع بالأسعار المتعارفة، فلو فرضنا أنّ الأجير في هذه الحالة قد باع للمشتري السلعة بالإتفاق معه على أن يخفّض له من القيمة إلى الحد الأدنى الممكن على أن يأخذ عمولة لنفسه من المشتري، فهذه العمولة في هذه الصورة تكون محرّمة أيضا ولا يحلّ للأجير أخذها إلاّ إذا كان هناك مبرّر شرعي لذلك، وكذلك لو فرضنا أنّ الأجير باع السلعة بأزيد من السعر المتعارف فالحكم هو أنّ الزيادة هنا للبائع الأصلي وليست للأجير إلاّ بمبررٍ شرعي.
العنوان الثاني:"الجعالة" 20: وهي أن يجعل الإنسان مكافأة معينة على عملٍ سائغ مقصود، كأن يقول "جعلت لمن يبيع داري بسعر كذا مبلغ كذا أو نسبة معينة من ثمنه"، والفرق بين الإجارة والجعالة أنّ المستأجر يصبح في عقد الإجارة مالكاً لمنفعة في المجال الذي استأجره ويصبح الأجير مالكا للأجرة في ذمّة المستأجر، وأمّا في الجعالة فلا يملك الجاعل شيئا من عمل المجعول له، ولا يملك المجعول له شيئا ممّا جعله الجاعل إلاّ بعد المباشرة في العمل وإنجازه.
وهناك فرقٌ آخر بينهما وهو "أنّ عقد الإجارة لازم فلا يصحّ فسخه من جانب طرفٍ واحد، بينما الجعالة جائزة، وعليه فلو فرضنا أنّ الجاعل رجع في ما جعله قبل المباشرة بالعمل فلا شيء عليه، ولكن لو رجع أثناء العمل وقبل الإنتهاء منه، فلو فرضنا صحة مثل هذا الرجوع فيستحق المجعول له نسبة من الجعل تساوي من ناحية القيمة ما يوازي العمل الذي قام به، فإن كان النصف فالنصف وهكذا.
العنوان الثالث: "عقد الوكالة"21:ومعناها "أن يوكّل الإنسان شخصاً آخر مكانه يكون بمنزلة نفسه في كلّ ما هو جائز من الناحية الشرعية"، وهي عقدٌ جائز ليس فيه إلزام لأيّ من الموكّل والوكيل، فيجوز للموكّل إبطال التوكيل، لكن عليه إعلام الوكيل وهذا لا بدّ منه لإبطال فعالية التوكيل، فلو كان الوكيل قد تصرّف بعد عزله ولم يعلم بذلك كان تصرّفه نافذا لحساب الموكّل.
والتوكيل فيما نحن في العملية التجارية له صورتان: الصورة الأولى: "التوكيل في إنشاء الصيغة ونقل الملكية أو المنفعة"، وهذه الصورة من التوكيل لا يكون الوكيل فيها سوى ناقل الكلام الموكّل بيعاً وشراء وإجارة وما شابه ذلك وليس له استقلالية في التصرّف أكثر من ذلك إلاّ بحدود ما يحدّده لك الموكّل، كما لو أذن له إضافة إلى إنشاء الصيغة ونقل الملكية القبض والأقباض والإيصال إليه وما شابه ذلك ممّا يعتبر من توابع الأمر الموكّل فيه. ويجوز أن يجعل الموكّل للوكيل بدلا ماليا معينا لهذا العمل، إمّا بنحو تعيين مقدارٍ معين من المال على كلّ عملٍ يوكّله فيه أو ما شابه هذا النحو و إمّا بتعيين نسبة من ثمن الموكّل ببيعه أو بشرائه، أو نسبة معينة ممّا هو موكّل بإيجاره مثلا.
وهذا التوكيل هو الذي يصحّ أن نطلق عليه "التوكيل المقيّد"، وينتج عن هذا التوكيل أنّ الوكيل لو تصرّف زائداً عن مقدار الوكالة كان ضامنا في حال التعدّي أو التفريط المؤدي إلى التلف أو الخسارة، ويحتاج إلى إجازة الموكّل في حال كان التجاوز لمصلحة الموكّل، كما لو باع الوكيل العين التي اشتراها للموكّل بربحٍ كبير مع أنّ الموكّل المفروض أنّه قد وكّله بالشراء فقط دون البيع.
الصورة الثانية- "التوكيل العام أو بنحو التفويض": وهو أنّ الوكيل وإن كان مجازاً من المالك ويعمل لمصلحة الموكّل، إلاّ أنّه يملك صلاحية تامّة ويملك تفويضاً تاماً في متابعة أمور الموكّل من حيث البيع والشراء والإجارة، وهو الذي يطلق عليه في الفقه "الوكيل المفوّض إليه للمعاملة"، أي أنّه لا يحتاج في هذه الأمور للرجوع إلى الموكّل في كلّ أمرٍ متعلق بالمعاملة طالما أنّ الأمر لم يصل إلى حدود التعدّي أو الإفراط.
وهذا التوكيل هو الذي يسمى ب "الوكالة بالعمولة" وهو حسب ما عرّفوه "بأنّه الذي يتعاقد باسمه الخاص ولكن لحساب موكله بيعاً وشراء وغيرهما من العمليات التجارية مقابل عمولة"، وهذا المعنى نفسه هو الذي ورد في الفقه بأنّه "الوكيل المفوّض" أي "الوكيل القائم مقام المالك فيرجع عليه البائع بالثمن ويرجع عليه المشتري بالثمن وترد عليه العين بالفسخ بعيبٍ ونحوه ويؤخذ منه العوض".
وما ذكرناه من صور الكسب المحرّم في عقد الإجارة تجري بعينها تماماً فيما لو كانت صيغة المعاملة بين العامل والمالك هي الجعالة أو الوكالة، لأنّ مناط الحرمة في جميع صيغ المعاملات واحد وهو "التجاوز عن حدود الصلاحية والتعدّي عن حدود العمل المجاز فيه والذي استحقّ على أساسه الأجرة أو الجعالة أو البدل في الوكالة.
والذي نستخلصه في الختام هو أنّ التوسيط التجاري بكلّ معانيه الآنفة الذكر من أصل التجارة والتوكيل والسمسرة من الناحية الشرعية طالما أنّ القواعد الأساسية لهذا العمل محفوظة فيه ومن خلاله، وبالأخص في هذا العصر الذي تشعّبت فيه المعاملات التجارية وتنوّعت بسبب سرعة الإتصالات والمواصلات التي جعلت العالم كلّه بمتناول الأيدي من حيث التبادل في السلع بين الشعوب المنتجة لها والمستهلكة من جهة، وبين الشعوب المنتجة للمواد الأولية والبلدان الأخرى المحتاجة إليها للتصنيع من الجهة الأخرى.
_ والحمد لله ربّ العالمين_
1_ وسائل الشيعة _ج12_ص381_ح1.
2_ وسائل الشيعة _ج12_ص394_ح1.
3_ وسائل الشيعة _ج12_ص395_ح6.
4_ الحلال والحرام في الإسلام _الدكتور يوسف القرضاوي _ طبع مؤسسة الاعلام الإسلامي _طهران _ص401و2.
5_ سورة النساء _آية29_.
6_ سورة الحج _آية30_.
7- سورة البقرة _آية79_.
8_ سورة النور _آية33_.
9_ وسائل الشيعة _ج12_ص127_ح1.
10_ وسائل الشيعة _ج12_ص62_ح5.
11_ وسائل الشيعة _ج12_ص85_ح3.
12_ وسائل الشيعة _ج12_ص165_ح5.
13_ وسائل الشيعة _ج12_ص55_56_ح1.
14_ الشهيد السيد محمد باقر الصدر "قده"_ المجموعة الكاملة_ ج12_ص104من الملحقات.
15_ وسائل الشيعة _ج13 _ص263_ح2.
16_ وسائل الشيعة _ج3 ص265 _ح1.
17 _وسائل الشيعة _ج13 _ص263_ح4.
18_ نهج البلاغة للإمام علي(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر "رض"_ص619_طبع دار البلاغة، بيروت.
19_ تحرير الوسيلة _ج1_ص521وما بعد_.
20_ تحرير الوسيلة _ج1_ص537وما بعد_.
21_ تحرير الوسيلة _ج2_ص39وما بعد_.