الإغتراب، مشاكل وحلول
- المجموعة: مقالات اجتماعية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 1695
مما لا شك فيه أن ظاهرة الاغتراب الناتجة عن هجرة موطن الآباء والأجداد إلى الدول الأمريكية والأوروبية وغيرها من الظواهر الملفتة في عالمنا الإسلامي، ولها أسبابها المتعددة وأبرزها السياسية والاجتماعية والإقتصادية والدراسية، ولسنا الآن بصد تحليل هذه الظاهرة على أهميتها، وسوف نقصر كلامنا في الإجابة عن استفسار الإخوة حول أحد آثار تلك الظاهرة وهو (زواج الشباب المغترب من فتيات أهل البلدان الاغترابية التي يتواجد فيها الإخوة). في البداية نقول إن كل شعب وكل أمة لها تاريخها وحضارتها وثقافتها ولها أيضاً عاداتها وتقاليدها الخاصة بها، ومن الطبيعي أن الإنسان هو ابن المجتمع الذي ينتمي إليه ويعيش فيه فيتأثر كما يؤثر في ذلك الوسط الذي تربى فيه واندمجت في نفسه حضارة شعبه وأمته بما تضمه من ثقافة وعادات وتقاليد تميزه عن غيره من أهل الشعوب والأمم الأخرى في العالم. من هذا المنطلق، عندما يهاجر الشاب المسلم المطبوع على الثقافة الإسلامية والمتبع لتقاليد وعادات الأمة الإسلامية سوف يجد نفسه في عالم غريب عنه، وبعيد عنه
في التوجهات والرؤى والأهداف وأنماط العلامات الإجتماعية وغير ذلك. ولهذا فإن حالة التأقلم مع ذلك المجتمع الغريب قد تأخذ فترات طويلة أو قصيرة وقد لا يحصل التأقلم نتيجة التربية التي كان المهاجر قد تربى عليها في البلد المنتمي اليه أساساً. ولهذا نلمس أن غير المتدينين من أبناء الأمة الإسلامية بما أنهم لا يراعون أحكام الإسلام ولا يهتمون كثيراً لهذه الناحية الأساسية للحفاظ على شخصيتهم المستقلة سرعان ما تجرهم أجواء تلك البلاد بما فيها من انفلات أخلاقي واجتماعي، وقد لا يجدون أنفسهم غرباء جداً عن أبناء تلك البلاد، وإن ظلوا يعيشون الحنان والشوق إلى بلادهم الأصلية ويقيمون العلاقات مع أبناء بلدهم هناك. لكن المشكلة هي عند الشباب المتدين والملتزم الذي يريد أن يحفظ توجهاته الدينية والأخلاقية والاجتماعية في مجتمع لا يقيم وزناً لهذه الأمور ويرى فيها تناقضاً مع الحرية الفردية والشخصية القائم عليها المجتمع الغربي بشكل عام. وسوف نعرض بعض المسائل قبل استخلاص الجواب الذي نرى فيه الحل الأنسب للشباب الملتزم المغترب والمهاجر لأرضه وأهله، وهي: المسـألة الأولى: (العقد المنقطع): وهو التشريع الذي أقره الإسلام لمعالجة بعض النواحي السلبية التي قد تنشأ في المجتمع لأسباب متعددة، منها الطلاق ووفاة الزوج أو الزوجة أو الحاجة والرغبة الجنسية عند الرجل أو المرأة، وهذا التشريع لا يترتب عليه حقوق شرعية أو قانونية بحسب الأصل في الإسلام، فلا تستحق المرأة فيه النفقة على التمتع بها ولا حق السكن ولا نصيب لها في الميراث من الرجل، ولا يجب فيه الطلاق مع الشهود، بل يكفي أن يهب المتمتع بالمرأة بقية المدة من العقد الحاصل بينهما ليتم الانفصال، والأوضح من ذلك كله هو أن المتمع بالمرأة يحق له أن ينفي أبوته للحمل أو للولد الناتج عن هذه العلاقة بالعقد المنقطع، وهذا العقد مورد اتفاق فقهاء المذهب الجعفري ويجوز أن يكون مع المرأة من أهل الكتاب كالنصرانية واليهودية فضلاً عن المسألة الثانية، فلا إشكال فيه من الناحية الشرعية على الإطلاق. المسألة الثانية: (العقد الدائم ): وصحته مورد اتفاق جميع فقهاء الإسلام، أما العقد الدائم على الكافرة من غير أهل الكتاب فباطل بحسب فقهاء الإسلام، وأما العقد الدائم على نساء أهل الكتاب كالميسحية واليهودية فهو محل خلاف بين فقهائنا، فمعظمهم يعتبره غير جائز، وبعضهم يعتبره محرماً، ومن يقول بجوازه يقول في الوقت ذاته بالاحتياط بعدم العقد الدائم على نساء أهل الكتاب. ولعل مرجع ذلك أن جواز مثل هذا العقد بين المسلم وبين تلك النسوة له محاذير متعددة سواء من النواحي الدينية أو السلوكية والإجتماعية أو الأخلاقية وغيرها على نحو ما نرى في عالم الغرب اليوم الذي يعيش الإباحية المطلقة في هذه النواحي الجنسية بلا حسيب ولا رقيب، مما أدى إلى نشوء المفاسد المتعددة. المسألة الثالثة: (الأمراض الجنسية المنتشرة في الغرب ): وهذه الأمراض المتنوعة الناتجة عن الإباحية الجنسية وعلى رأسها مرض العصر (الإيدز) الذي لم يجدوا له الدواء حتى الآن، يعتبر من أبرز الأخطار المتفشية في الغرب اليوم، وكذلك أمراض من قبيل ( الزهري ) و ( السفلس ) وغيرهما أيضاً، وهذا يعني أن الأخ الذي يريد إقامة علاقة جنسية بالعقد المنقطع أو الدائم عليه أن يحسن الاختيار من خلال الاختبارات المخبرية للمرأة التي يريد إنشاء علاقة معها حتى لا تنتقل العدوى منها إليه، ومن أهم أسباب نشوء تلك الأمراض هو عدم الانضباط والاتزان في مجال العلاقات الجنسية عند أهل البلاد الغربية عموماً، فترى للرجل الواحد أكثر من عشيقة، وللمرأة الواحدة أكثر من عشيق. من ذلك كله ينبغي على الشباب الملتزم مراعاة الحرص الشديد في مجال هذه العلاقات حتى لا يقع في محاذير وأضرار تلك الأمراض الفتاكة. المسألة الرابعة: ( القوانين المطبقة في عالم الغرب للعلاقات الزوجية): وهذه القوانين هي من ابتداع وابتكار القوانين الوضعية الناتجة عن كثير من ألوان الانحراف الجنسي والسلوكي هناك، والملحوظ فيها بشكل كبير حماية المرأة دون الرجل، لأن المشكلة عندهم أن الرجل كثيراً ما يترك المرأة لمصيرها مع ما قد تكون أنتجته تلك العلاقة فيما بينهما، وهذا ما لمسناه بأيدينا وسمعناه من كثير من الإخوة الذين اضطروا لترك أبنائهم في تلك البلاد بسبب العجز القانوني عن جلب أبنائهم معهم الناتج عن تمسك أمهاتهم بهم ووقوف القوانين في تلك البلاد إلى جانب المرأة الأجنبية. وهذا كله مما يتنافى مع الأحكام الشرعية المقررة في مجال الزواج والطلاق والنفقة والأولاد والسكن وما إلى ذلك، فعدم القدرة على تطبيق أحكام الإٍسلام هناك ينتج عنه كثير من المفاسد الدينية وتبعاً لها فقد الهوية الإسلامية لأولئك الأبناء في أغلب الأحيان. المسألة الخامسة: ( المشاكل في البلاد الإسلامية الأم ): ومما لا شك فيه أن ظاهرة الزواج للشباب المهاجر من بنات البلاد الأمريكية وغيرها من بلدان الاغتراب يؤدي إلى بقاء كثرة من فتياتنا من دون زواج مع ما في هذا الأمر من الإرباك الإجتماعي والخلل التكاثري في المجتمع الإسلامي، مضافاً إلى ما يجره ذلك من مفاسد أخلاقية خاصة في ظل تزايد عدد الشباب المهاجر الذي صار كبيراً جداً في تلك البلاد. والمقصود من الخلل التكاثري هو أن هجرة الشباب إلى الخارج ووفرة البنات في الداخل تؤدي إلى التقليل من حالات الزواج في مجتمعنا الإسلامي وبناء الأسر التي تنشأ عنها الأجيال المتعاقبة، وخصوصاً إذا كانت فترات الهجرة طويلة نسبياً كما هو حاصل في هذا الزمان، ويضاف إلى ذلك حرمان المجتمع الإسلامي من كثير من الطاقات والكفاءات والمهارات والإمكانيات التي نحتاج إليها لتحصين وضعنا الداخلي والتي يمكن للشباب المهاجر لو كان في بلده الأصلي أن يزود بها أمته ومجتمعه. بعد هذه المسائل التي ذكرناها يمكن تحديد الإيجابيات والسلبيات في مثل هذا الزواج الذي يسأل الإخوة الكرام عنه: أما الإيجابيات المحتملة فهي: أ ـ الفائدة الحاصلة للإخوة المهاجرين الساعين إلى تحصيل الإقامة القانونية للبقاء في بلاد الاغتراب التي تشترط حضور المهاجر إليها للإقامة حتى يعيش فيها. ب ـ أسلمة بعض الفتيات غير المسلمات وهدايتهن إلى الصراط المستقيم، وهذا الأمر هو أهم إيجابية في مورد ما نتحدث عنه. ج ـ الاستقرار النفسي والمعنوي الذي يمكن أن يعيشه المسلم هناك من خلال مثل هذا الارتباط الزوجي ولو كان بالأجنبية غير المسلمة. د ـ فتج المجالات أمام هؤلاء الإخوة للتبليغ والدعوة إلى الله من خلال الانفتاح الذي يبدأ به الشباب المسلم بزواجهم من غير المسلمات، وهذا مما قد يساعدهم على زيادة النشاط وتفعيله هناك. أما السلبيات المحتملة فهي: ا ـ الخوف على الإخوة من الانغماس في تلك المجتمعات وعدم العودة إلى بلادهم التي هاجروا منها نتيجة ارتباط الزواج وخصوصاً إذا نتج عنه أولاد. ب ـ الخوف على دين الشباب نتيجة طغيان الأجواء المنحرفة في تلك البلدان. ج ـ ضياع الهوية والشخصية وتقوية تلك البلدان على حساب تنمية بلداننا الأم. د ـ تقليل فرص الزواج أمام الفتيات المسلمات في البلدان الإسلامية وبروز بعض المشاكل الاجتماعية والأخلاقية كما بيّنا ذلك في المسألة الخامسة. هـ ـ إنعدام التربية الإسلامية الصالحة في مثل تلك المجتمات مما قد يؤدي إلى فقدان الأولاد لدينهم أو هويتهم لو سلمنا أن الوالد بقي محافظاً وملتزماً بهما. وفي النتيجة النهائية نرى أن السلبيات الناتجة عن مثل هذا الزواج هي أخطر من الإيجابيات الحاصلة منه، لأن الإيجابيات كما نلمس تلحظ الحالة المادية بشكل أساس والدعوة إلى الدين بشكل فرعي، بينما السلبيات تكاد تكون منحصرة في الجانب الديني والإسلامي بشكل أساسي ووحيد. ولهذا نجد أن الحل الأنسب لإخوتنا الذين يعيشون في بلاد الاغتراب هو (العقد المنقطع) بصورة أساسية لأنه يؤمن له الحاجة الجنسية التي لا يستطيع الإنسان مهما كان الإستغناء عنها، ولكن مع مراعاة النواحي الصحية وإعطائها أهمية نظراً للأمراض الجنسية المتفشية عندهم، ومن خلال إخلاص الفتيات الإجنبيات لشبابنا المسلم ولمس ذلك بصورة أكيدة، ومن خلال التقرب من الإسلام والإقتناع به والتأكد من ذلك، ويمكن للأخ إذا حصل على اليقين من إسلام التي تعيش معه بعلاقة شرعية والتزامها بأحكامه بشكل جيد، يمكن له الزواج منها بالعقد الدائم لأنها بإسلامها خرجت عن ملة الكفر إلى ملة الإسلام، وفي هذا ما لا يخفى من الأجر والثواب عند الله العزيز الحكيم، وهو التطبيق للحديث الوارد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله) عندما قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): ( يا علي، لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس ). وهذا الحل يمكن أن يتّبعه الذين لا يريدون العيش لسنوات طويلة، وإنما ينوون الرجوع بعد فترات قصيرة إلى أرضهم وأهلهم. وأما الحل الأفضل والمرغوب شرعاً والذي ينفي السلبيات ويحفظ ويصون المسلم والذي يناسب الشباب الذين يريدون العيش هناك لفترات طويلة، هو أن يهيء الشاب المغترب أوضاعه وظروفه، ثم يعود إلى وطنه الأم ليختار الفتاة التي يرى فيها قابلية تحقيق البيت الزوجي السعيد، وهذا الزواج بصورته هذه له فوائده الكثيرة وأهمها حفظ الدين والهوية لنفسه ولزوجته وأولاده، وهذا ما يؤدي إلى بقاء علاقة الإنسان المغترب بوطنه وأهله، ولا يتعارض مع قيامه بواجباته الدينية أو الرسالية أو الحياتية والإجتماعية حيث هو في بلاد الإغتراب. نسأل الله أن لا يميتنا إلا على طريق الإسلام، طريق خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) وأن يجعلنا من المشمولين برحمته وعفوه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين