الخميس, 21 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الإستضعاف في القرآن

sample imgage

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (القصص / 5) صدق الله العظيم .

إن الكلام عن الإستضعاف الذي يتحدث القرآن الكريم عنه في هذه الآية المباركة خاصة، ناظر إلى حقيقة واقعية كانت مصداقينها متحققة من خلال الصراع عبر العصور والأجيال بين الفئات المستكبرة التي تملك كل أسباب القوة والتسلط وبين الفئات المستضعفة المقهورة التي كانت ترزح تحت نير الإستعباد والظلم من كل النواحي. ونفس ذلك الصراع يتجلى في عصرنا اليوم بين الفئتين المذكورتين وإن كانت صورة ذلك الصراع تختلف في كثير من مظاهرها عن السابق، من حيث طبيعة نوع السيطرة التي يمارسها المستكبرون حالياً ضد الكثير من الشعوب المستضعفة في أرجاء العالم الكبير هذا من خلال الإستعمار غير المباشر على المستويين السياسي والإقتصادي خاصة.

 

وبما أن الإستضعاف مظهر من مظاهر القهر الإنساني الذي يحمل في طياته إلغاء الوجود الحقيقي للإنسان وتحويله إلى مجرد أداة أو آلة، تعمل لا من أجل ذاتها، ولا في سبيل مصلحتها، وإنما من أجل تحقيق رغبات الإستكبار ولو كانت على خلاف مصلحة المستضعفين، كان هذا المعنى مكروهاً من الله سبحانه وتعالى لما فيه من الإحتقار للإنسانية والإنحراف بها عن المبدأ الصحيح.

ولهذا بعث الله أنبياءه ورسله من أجل أن وضحوا للبشر الهدف الأساس الذي من أجلهم منحهم الحياة التي بها يتحركون، وذلك من خلال قوله تعالى (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه)، ولهذا السبب ثار المصلحون الإجتماعيون عبر العصور أيضاً لما أدركوه من إفراغ الإنسانية من معاني وأهداف وجودها عندما تكون في موقع القهر والإذلال واستغلال وجودها وتسخيره لخدمة البعض من القوى المستكبرة الجائرة، ولأجل هذا السبب قامت الكثرة من الشعوب عبر التاريخ بالثورات الإجتماعية لاقتلاع القوى المستكبرة المهيمنة على مقدراتها ومصيرها وخيراتها.

فالأرض التي خلقها الله ليحيا الإنسان عليها من أجل تطبيق عدالة السماء ووحيه ومحاولة بناء المجتمعات على ضوء ذلك، لا بد وأن تنتهي في نهاية المطاف على النحو الذي أراده الله للحياة أن تكون وهذا المعنى يفترض وجود المؤهلين من البشر ليقودوا تلك العملية التصحيحية الكبرى على مستوى العالم كله واقتلاع الفساد والجور من جذوره لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة غيره من الذين كفروا هي السفلى، ولهذا نجد هذا الوعد الإلهي باستخلاف المستضعفين في الأرض ليكونوا قادة العالم والمسيرة الإنسانية بدلا ً عن المستكبرين الظالمين تحت راية القيادة الإلهية المتمثلة بالإمام المهدي المنتظر (عج) الذي أوكل إليه الله تلك المهمة الجليلة والعظيمة والذي يصادف مولده في الخامس عشر من شهر شعبان المعظم من سنة 255 للهجرة النبوية الشريفة.

الكثرة الوافرة من الروايات الشريفة الناطقة بصريح ألفاظها ومضامين معانيها بذلك، ومن ملاحظة الواقع الذي يعيشه الإنسان اليوم في هذا العصر من الخوف من الحاضر والقلق على المستقبل الذي لا يدري أحد كيف سيكون في ظل التسابق المحموم بين القوى الإستكبارية في العالم على استعباد الشعوب المستضعفة المقهورة التي ترزح تحت سلطان تلك القوى الظالمة التي تسلب الشعوب خيراتها وثرواتها وتمتهن كراماتها وتصادر إراداتها وقراراتها، كل ذلك من أجل إشباع غريزة السيطرة والإستقواء.

فتسمية الخامس عشر من شعبان بيوم المستضعفين من جانب الجمهورية الإسلامية في إيران يحمل دلالات مهمة جداً على مستوى الصراع الدائر بين الشعوب المستضعفة والقوى الإستكبارية في العالم، وذلك لأن الجمهورية الإسلامية التي كانت مصنفة ضمن العالم المستضعف زمن الحكم الإستبدادي الشاهدشاهي في اليوم دولة حرة مستقلة استقلالا ً تاماً عن هيمنة وجبروت القوى الكبرى الغربية منها والشرقية على حد سواء، ومن هذه الموقعية المهمة التي تمثلها خاصة بعد تجاوزها للكثير من حالات الحصار بأنواعه المختلفة وبعد إسقاط الكثير من المؤامرات الخارجية والداخلية ضد تلك الثورة،تستطيع أن تكون النموذج والرمز لطموحات كل الشعوب المغلوبةعلى أمرها، وهذه النموذجية عامة لكل الدول وذلك لأن إيران تمثل نموذجاً للإستقلال الحقيقي للنوعين المنضوين تحت اسم " دول العالم الثالث" أو حسب التسمية المزيفة "الدول النامية".

النوع الأول : الدول الإسلامية، وذلك لأن الثورة الإسلامية كانت ثورة شعب مسلم مستضعف استطاع من خلال صدق قيادته في حمل لواء الثورة من أن تنتصر باسم الإسلام والقرآن لتقيم حكماً على أساس الدين الإسلامي وقوانينه، وهي من هذا المنظار يمكن أن تكون محط آمال المسلمين قاطبة ليسيروا على دربها وليحاولوا إقامة النموذج المماثل في كافة البلدان الإسلامية.

النوع الثاني : الدول المستضعفة غير الإسلامية وذلك لأن إيران كانت تحمل عنوان شعب مستضعف مغلوب على أمره، فكل مصادر ثرواته وإمكاناته كانت في خدمة الإستعمار الغربي بأسره وعلى رأسه أمريكا الشيطان الأكبر في هذا العصر، فالشعب المسلم في إيران استطاع إنقاذ نفسه وتحرير أرضه وامتلاك قراره المستقبل بفضل ثورته، ليشكل نموذجاً مهماً للدول المستضعفة ولو لم تكن إسلامية، لأن تلك الثورة أثبتت أن إرادة الشعوب في الحرية والإستقلال أقوى من إرادة المستكبرين والطغاة، لكن ما على الشعوب إلا أن تأخذ زمام المبادرة وامتلاك الجرأة والشجاعة المعدوية الكافية لاتخاذ مثل ذلك القرار المهم والفعال جداً في هذا الأمر.

فالدولة الإسلامية اليوم تمثل بموقعيتها الحاضرة أظهر نماذج امتلاك المستضعفين لقرارهم في الحرب والسلم وهذا هو معنى أن يكون المستضعفون قادة أنفسهم متحررين من كل أنواع السيكرة والإستعباد، وهذا هو معنى أن يرث المستضعفون الأرض بديلا ً عن المستكبرين الذين ينحرفون بالمسيرة الإنسانية إلى غير الوجهة المطلوبة. ومن هنا، نجد أن دول العالم الإستكباري بغربها وشرقها، قد وحدت جهودها هذه الأيام عندما رأت أن النموذج الذي تحقق في إيران بدأ بالتنامي والتعاظم في كثير من أرجاء العالم الإسلامي وغيره على امتداد العالم الثالث، كل ذلك من أجل مواجهة صحوة المستضعفين الذين بدأوا بالتحرك لتحرير أنفسهم وواقعهم، فإيران اليوم تقاتل عن نفسها فقط ، وإنما تقاتل أيضاً من أجل أن تثبت أن (غير مفهوم) هي صممت على ذلك، وسلكت الطريق الصحيح الموصل إلى التحرر وخلع ثوب الذل والإستعباد، ولأجل هذا أطلق إمام الأمة الإسلامية الإمام الخميني العظيم شعاراً فيه دلالة واضحة على هذه المسألة بقوله (إن هذا القرن هو قرن انتصار المستضعفين على المستكبرين).

ولهذا فإن الصراع لن يتوقف طالما أن القوى الإستكبارية ما زالت مصممة على ممارسة دورها الإستكباري البشع المتمثل بقهر إرادة الشعوب وسلب خيراتها وتدمير مصيرها، والذي يعطي المستكبرين تلك القوة هو سكوت الشعوب المستضعفة عن القيام بواجبها تجاه نفسها أولا ً وبالذات من خلال شعورها بالضعف والعجز أمام تلك القوى الجائرة، ومن خلال عدم توفر القيادات الواعية التي تستطيع أن تقود حركة الجماهير الواسعة لتحقيق ذلك الإستقلال.

ومن هذا كله، تبدو وظيفة المسلمين عظيمة في هذا المجال، لأنهم يملكون العقيدة التي قد لا تكون متيسرة للكثير من شعوب العالم المستضعف، تلك هي العقيدة الإسلامية التي يمكنها أن تعطي للمسلمين حمل لواء الدفاع عن كل المستضعفين في الأرض ضد كل المستضعفين في العالم. وهي العقيدة التي يمكنها أن تزودنا بالقيادات الواعية المستوعبة لحركة الصراع والتي تنطلق في عملها من موقع المسؤولية الشرعية والخوف من الله دون غيره، لأن القيادة في هذا المجال تستطيع أن تلعب الدور الأكبر والمؤثر على هذا الصعيد من خلال قيادتها للجماهير، وهذا ما يتجلى واضحاً وصريحاً في حركة الإمام الخميني الذي يقود اليوم الشعب المسلم في إيران الذي استطاع أن يغير المعادلات التي كانت قائمة على مستوى التعامل بين العالم الإستكباري وعالم المستضعفين من خلال الإفتراء الواضح والقوي للموازين القائمة وتأسيس خط الإستقلال الحقيقي عن القوى الكبرى في عالم اليوم.

ولهذا، فالمطلوب من كافة الشعوب الإسلامية الرازحة اليوم تحت سلطة القوى الإستكبارية من خلال الأنظمة العميلة التي تحكمها أن تنتفض بالإتكال على الله أولا ً وإيمانها بإسلامها ثانياً في وجه تلك الأنظمة الخادمة والمنفذة لأوامر القوى الإستكبارية وتحت راية القيادة الإسلامية الصحيحة التي لا تستلم ولا ترضخ، وعندها تحقق الشعوب الإسلامية مقدمات الوعد الإلهي الذي لا شك في حصوله طالما أن التهيئة له قد صارت واقعاً وكذلك الشعوب المستضعفة غير الإسلامية يمكنها أن تأخذ من ثورة الدولة الإسلامية الشيء الكثير لتثور ضد مستعبديها من القوى الكبرى، لتصبح حركة المستضعفين في العالم شاملة كل أرجاء عالمهم ليقضوا مضاجع المستكبرين ولتخلصوا من الأسر والقهر والتخلف المفروض عليهم وليبينوا جميعاً حياتهم على ضوء مصالح شعوبهم من خلال امتلاكهم لقرارهم المستقل، وهذه الطريق هي وحدها طريق الخلاص دون غيرها لتكون للحياة معنى ولتعود للإنسانية إشراقتها وكرامتها وقيمتها.

" والحمد لله رب العالمين"