دور العلاقات الاجتماعية في عملية التغيير
- المجموعة: مقالات اجتماعية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2478
المقدمة الثانية- هل المجتمع هو الأصل أم الفرد أم هما معاً؟ وهذه النقطة تارةً نبحثها من وجهة النظر الفلسفية التجريدية، وتارةً نبحثها من الزاوية القانونية الحقوقية، أمّا بالنظر الفلسفي فيكون البحث في أنّ المجتمع هل هو بما له وجود حقيقي باعتبار أنّه صورة جديدة مغايرة للصور التي يتألّف منها وهي الأفراد بما يملكون من نفسيّات وقابليّات ومواهب تتأثّر وتؤثر فيما بين بعضها البعض فينشأ عن كلّ ذلك مركّب جديد مباين للأفراد بما يحملون وهو الذي نطلق عليه اسم المجتمع، ووجوده حقيقي واقعي كحقيقة وجود المركّبات الفيزيائية أو الكيميائية، غاية الأمر أنّ المجتمع مركّب بمعنى أنّ أجزاءه تتأثّر من بعضها البعض وتؤثّر في بعضها البعض ولكنّه يفترق عن المركّبات الطبيعية الأخرى أنّ الأجزاء هنا تحافظ على استقلاليتها الطبيعيّة بينما في المركّبات الفيزيائية أو الكيميائية تندمج الأجزاء وتتحلّل ضمن المركّب الذي تألّف منها فيصبح حقيقة مغايرة لا ارتباط لها بالأجزاء الأصلية، وهذه النظرية عند التحليل نرى أنّها تعترف بأصالة الفرد باعتبار أنّه يحافظ على استقلاليّته في الوجود في مقابل الأفراد الآخرين وتعترف بأصالة المجتمع لأنّه موجودٌ واقعاً باعتبار التأثّر والتأثير المتبادل الحاصل بين الأجزاء كلّها، هذا التفاعل الذي يجعل هناك نحواً من وحدةٍ أو تقاربٍ في السلوك والأفكار والميول والنفسيات بشكلٍ عام، وهذه النظرية هي التي نتبناها نحن حسب مفهومنا الإسلامي عن الأصالة هنا وهل هو الفرد أم المجتمع والآيات القرآنية والأحاديث الشريفة تشير إلى ذلك فمن الآيات الكريمة قوله تعالى: {ولكلّ أمّة أجلهم فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون}[1]، وقوله تعالى: {إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم}[2]، في هاتين الآيتين نرى أنّ الخطاب ليس موجّهاً إلى الأفراد ابتداءً بل هو موجّه إلى الأمّة بلحاظ كونها كذلك وليس موجّهاً لا بلحاظ كونها أفراداً وإن كان العقل يحلّل هذا الخطاب إلى كونه خطاباً انحلالياً فيحلّ بعدد ما في ذلك المجتمع من أفراد، إلاّ أنّ الخطاب بالمطابقة ليس لهم كأفراد بل بنحو المجموع كأمّة وهذا المعنى يظهر بوضوح من خلال الآية الثانية بالخصوص. بينما نرى أنّ الله في آياتٍ أخرى خاطب الفرد بعنوان كونه فرداً من دون أن يلحظ الناحية المجتمعية فيه قائمة بذاتها كما في قوله تعالى :{فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شرّا يره}[3]، وقوله تعالى: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى}[4]. هنا يتّضح بجلاء أنّ الخطاب للفرد بعنوانه الشخصي الذي كانت المشخصات الفردية لكلّ مخاطب داخلة في إطلاق الخطاب المتوجّه إلى المكلّفين بعنوانهم الخاص لا بعنوانهم الإجتماعي، هذه النظرية سوف نرى أنّها تفيدنا جداً لمعرفة النقطة الأساسية التي ننطلق منها عندما نريد أن نعرف ما هي نوعية العلاقات الإجتماعية بمعناها العام الشامل التي ينبغي أن نتّبعها نحن الإسلاميون عندما نريد السعي لتغيير الواقع، لأنّ الوسط الذي نعيش فيه مشبع بالنظريات والعقائد الأخرى التي أثّرت فينا وفي طريقتنا في العمل وفي التفكير بحيث حصل هناك نحو من السريان البطيء الذي لم نلحظه إلى طريقة تفكيرنا في القضايا، فتعاملنا مع عقيدتنا ومع أفكارنا الإسلامية بنفس الطريقة تقريباً التي يتعامل بها الآخرون مع أفكارهم من حيث التحليل الفكري أو السلوك الخارجي وسوف نبيّن هذا الأمر بجلاء ضمن الأبحاث القادمة بعونه تعالى. ولكن في مقابل نظريّتنا الإسلامية التي تقدمت بكلا الأصالتين الفردية والمجتمعية هناك من يرى أنّ الأصل هو الفرد وأنّ المجتمع هو وصفٌ انتزاعي اعتباري لا حقيقة له في الخارج، وإنّما ننتزعه من خلال ربط الأفراد المشتركين في العادات والتقاليد والأفكار، وهناك من يرى العكس من ذلك فيرى أنّ المجتمع هو الأصيل وهو المبدأ باعتبار أنّ الإنسان كفرد لا تتحقّق إنسانيته إلاّ من خلال تواجده ضمن المجتمع ولو لم يكن ضمن حياة إجتماعية فهو محض حيوان فقط فلا مجال لأن تظهر قابلياته الإنسانية المودعة فيه. وأمّا من الناحية القانونية فيأتي في المقدمة الخامسة.
المقدمة الثالثة- نوعية الإحتياجات الضرورية للحياة الإجتماعية العامّة: قلنا إنّ المجتمع إنّما يتحقّق نتيجة ترابط الأفراد أو المجموعات بسبب الإحتياجات المادية ووحدة الميول والعادات والتقاليد، وهذا المعنى عند التحليل يستنتج منه أنّ الإحتياجات الضرورية لحياة الناس أمران : الأول – الإحتياجات المادية الطبيعية ، الثاني – الإحتياجات غير المادية بشكلٍ عام ، والنوع الأول من هذه الإحتياجات لا يختصّ بإنسانٍ معين في زمنٍ أو مكانٍ معين كذلك بل هي احتياجاتٌ لذات الإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه، لأنّها ممّا يحتاج إليها كلّ البشر، فهي ثابتة لعنوان الإنسان من دون إضافة شيء إليه وإذا أضفنا إليه عنواناً أو وصفاً آخر فإنّما هو لتحديده من حيث الجهات الأخرى لا تحديده من حيث الجهة الإنسانية الموجودة فيه، وقد بيَّن القرآن الكريم ذلك حيث وجَّه الخطاب إلى كلّ البشر بما هم بشر من دون إضافة أيّ عناوين وأوصاف أخرى بقوله: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}[5] ،وقوله تعالى: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق}[6]، مشيراً إلى هذه الحقيقة هي وحدة الإنسان بلحاظ هذه الإحتياجات التي لا يمكنه أن يستغني عنها أبداً وأوضح آية دالّة على ذلك هي :{وما من دابّةٍ إلاّ وعلى الله رزقها}[7]، وهذه تشمل كلّ كائنٍ حي سواء أكان إنساناً أو غيره، من دون وجود ميزة أو أفضلية لأحدٍ على أحد من البشر، فالأغنياء والفقراء سواء العلماء والأميّون سواء. فوحدة النوع الإنساني تتوخّى بحدّ ذاتها وحدة الإحتياجات من هذه الجهة خاصة بعد أن نعلم كما هو الواقع أنّ مبدأ النوع الإنساني بأسره واحد بحسب المنشأ وهو لا بدّ وأن يكون متّحداً بحسب هذه الإحتياجات وقد قال الله تعالى: {يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى}[8].
وأمّا النوع الثاني من الإحتياجات وهو غير المادية فإنّما تفرضها طبيعة الحياة الإجتماعية باعتبار أنّ الإنسان مفطورٌ بطبعه على الإنجذاب نحو الحياة الإجتماعية هذه والعقل مدركٌ لهذه الحقيقة وكذلك الإسلام يؤكّدها والآثار التاريخية عن الأمم الماضية تدعم ذلك حتّى في المجتمعات البدائية التي لم تعرف القانون والشرائع كما نعرفها اليوم وقد قال القرآن عن ذلك: {يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}[9]، والسبب في احتياج الحياة الإجتماعية إلى هذا النوع من العلاقات أنّ الأفراد يملكون قابليات وطاقات ونفسيات قد تكون متقاربة أو متباعدة، وكلّما كان التباعد أكثر في الميول والنفسيات الفردية كلّما صارت الحياة الإجتماعية مهدّدة بالخطر أكثر لأنّ تلك الميول لا بدّ وأن تنعكس أعمالاً خارجية حسب الطبيعة النفسانية لكلّ نوعٍ من الأفراد، وهذا قد يؤدّي إلى انحلال الأمّة إلى قطعٍ منفصلة متباينة لا رابط بينها ممّا يؤدّي بالتالي إلى الإستعلاء والإستقواء لفئةٍ على أخرى حسبما تملك الفئة القادرة من إمكانياتٍ وطاقات، ولهذا كان لا بدّ من هذه الإحتياجات التي تلحظ التناسب مع طبيعة الأفراد الذاتية ليصوغ الأفراد بأنفسهم أو القدرة الإلهية باعتقادنا الموازين العامّة التي تكون نقطة الإلتقاء للجميع حتّى لا تنحرف الحياة المجتمعية عن الخط الصحيح والسليم الذي يجعل الأفراد والأمّة كذلك ينعمون بالحياة كما ينبغي أن تكون الحياة، ولهذا نرى أنّ القرآن ركّز كثيراً على هذه الناحية معتبراً إيّاها المهمّة الأصعب والخطوة الأهم والأكثر تأثيراً على حياة الأمم الإجتماعية وقد بيّن ذلك قوله تعالى :{ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}[10] ،وقال تعالى مخاطباً: {وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}[11]، وقال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا}[12].
المقدمة الرابعة- ضرورة القانون للحياة الإجتماعية: ممّا سبق نفهم أنّ أساس قيام الحياة الإجتماعية إنّما هو لتحقيق الإكتفاء لكلّ الأفراد والجماعات التي يتكوّن منها ذلك المجتمع وليسدّ احتياجات الأفراد كافّة ولا يمكن تحقيق ذلك والوصول إلى تلك النتيجة إلاّ عبر صياغة نظم وقوانين للتحكّم في أنماط العلاقات الماديّة وغير الماديّة التي تفرزها وتفرضها طبيعة الحياة الإجتماعية بمعناها العام، لكي لا يحصل الإختلاف الناتج عن التداخل والتشابك في المصالح والمنافع بين أفراد المجتمع، ولهذا أقرّ علماء الإجتماع وكلّ من بحث هذا الموضوع بأنّ أيّ كيانٍ إجتماعي لا تكون قوانينه وافية بالمهمّة التي صيغت من أجلها فإنّ هذه القوانين لا تكون واقعية وكلّ كيانٍ إجتماعي لا يستطيع أن يؤمّن احتياجات أفراده كافّة ولا ارتباط بالتالي بين أفراده وجماعاته لا يُطلق عليه إسم المجتمع إلاّ تسامحاً وتوسعة في معنى المجتمع، فالقانون إذن ضرورة حتمية من ضرورات الحياة الإجتماعية ويشهد لذلك تاريخ كلّ الأمم السالفة كشريعة حمورابي وغيرها مثل كونفوشيوس وبوذا وما شاكل من هؤلاء الناس الذين صاغوا لشعوبهم القوانين التي تتحكّم بالعلاقات الإجتماعية ولو من بعض النواحي.
وقد عبّر القرآن عن هذه الضرورة الإجتماعية بقوله تعالى: {كان الناس أمّةً واحدة فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}[13]، وعليه فالقانون هو الحقيقة التي بها يُستطاع تعديل الميول والإنحرافات الناتجة عن الحياة الإجتماعية برفع التمانع والتزاحم إمّا عبر الإلتزام الطوعي بما ينصّ عليه القانون أو بالقوّة الإجرائية التي تكون وظيفتها تطبيق القانون وفرضه بالقوّة على الممتنعين عنه.
المقدمة الخامسة- هل الأصل الذي ينطلق منه في وضع القانون المجتمع أم الفرد؟ ولمّا كان القانون من ضروريات الحياة الإجتماعية باعتبار أنّه الوسيلة التشريعية لحفظ الحقوق والمصالح، فلا بدّ وأن يكون هناك أصل يُنطلق منه لسنّ القوانين والتشريعات لضمان ذلك الهدف، والإختلاف قد يرد على القوانين الموجودة في الواقع باعتبار الأصل الذي ينطلق منه كلّ قانون في سنّ تشريعاته، فمثلاً القانون الذي ينطلق من أصالة المجتمع لا بدّ وأن تكون تشريعاته مختلفة كمّاً وكيفاً وأسلوباً عن القانون الذي ينطلق من أصالة الفرد، ولا شكّ أنّهما سيكونان مختلفين عن القانون الذي يعتبر أنّ كلاًّ من الفرد والمجتمع أصيل بحدّ ذاته كالنظرية الإسلامية فهي سوف تلحظ كلا الأصيلين عند سنّ القوانين والتشريعات، ولهذا فسوف يكون الفرق الكلّي الذي يتحلّل إلى فروقاتٍ متعددة بعددٍ ما للحياة الإجتماعية من موارد تنازع وخلاف هو أنّ القانون الذي يعتبر أنّ المجتمع هو الأمس فسوف تكون تشريعاته كلّها منسجمة مع ذلك الأصل سواء وافقت الفرد بخصوصيّة الفردية أو لم توافقه باعتبار أنّ الفرد لا وجود لحقيقته الإنسانية إلاّ عبر وجوده الإجتماعي، والذي يعتبر أنّ الفرد هو الأصل سوف تكون تشريعاته ناظرة إلى مصلحة الفرد بخصوصية بحيث يعطيه الضمانات التامّة لحمايته من المجتمع سواء وافقت القوانين الموضوعة للفرد مصلحة المجتمع أم لم توافق، وهذان القانونان يختلفان في التصوّر والتشريع عن القانون الذي يلحظ أصالة كلا الأمرين فإنّ تشريعاته سوف تراعي حقوق الفرد بخصوصيته الفردية ولكنّها في الوقت ذاته سوف تراعي حقوق المجتمع بخصوصياته الشاملة، أي أنّ النظرية الإسلامية تعطي الفرد حقوقه الكاملة طالما أنّ ذلك لا يتعارض مع المحافظة على مصلحة المجتمع ككل، فحقوق الأفراد مقدّسة وكذلك حقوق المجتمع فلا طغيان لأصالة الفرد ولا المجتمع لتحقيق الوحدة التكاملية من خلال الكثرة في العلاقات التي تهدف للوصول إلى الإنصهار.
المقدمة السادسة- القانون الإلهي والقانون الوضعي والفروقات الكليّة بينهما: ممّا تقدّم يتبيّن معنا أنّ القانون لما كان ضرورياً للحياة الإجتماعية وقد وُضِعَ ليحفظ الحقوق على اختلافها، علينا أن نبحث هذه النقطة الأساسية وهي "هل أنّ القانون الموضوع من قِبَل الإنسان هو الكفيل بإسعاد البشرية أم القانون الإلهي؟ والجواب عن هذه المسألة بالذات هو الذي يحدّد نوعية القانون الذي يُراد له أن يحكم علاقة الإنسان بالإنسان وغيره من الموجودات الأخرى في الطبيعة، في هذه النقطة بالذات تفترق القوانين الإسلامية عن القوانين الأخرى لأنّ المقدّمات الخمس السابقة متّفق عليها جميعاً بين كلّ البشر، والكلّ متّفق أيضاً على أنّ القانون المشترع لا بدّ له من أصلٍ ينطلق منه ليكون هو المحور لكلّ التشريعات الإجمالية والتفصيلية لمفردات الحياة من كلّ جوانبها التي هي بحاجة إليها، ولهذا نرى أنّ غالبية القوانين الوضعية بشكلٍ عام قد وُضعت للإهتمام بناحية واحدة من احتياجات الإنسان وهي الإحتياجات المادية سواء انطلقت في تشريعاتها من أصالة الفرد كالنظرية الرأسمالية إن صحّ إطلاق النظرية عليها أو انطلقت من أصالة المجتمع كالنظرية الماركسية عندما رأت أنّ القانون الموضوع لضمان حقوق الأفراد قد أدّى إلى فرز للمجتمع إلى طبقة رأسمالية تحتكر كلّ أدوات القوّة والسيطرة والمال على حساب الأغلبية الساحقة من البشر الذين لم يتمكّنوا من تأمين احتياجاتهم في ظلّ ذلك النظام الذي أهدر حقوق المجتمع في سبيل ضمان حقوق الفرد فقالوا بأصالة المجتمع وسنّوا قوانينهم متّخذين المجتمع أصلاً ينبغي أن تصبّ كلّ التشريعات لصالحه وأدّى هذا إلى سحق حريّة الفرد وملكيّة الفرد ممّا أدّى إلى قتل الطموح الشخصي وتحطيم المبادرات الفردية التي قد لا تقلّ أهميةً عن المبادرات الجماعية كما نادت بذلك النظرية الرأسمالية المشجّعة للمبادرة الفردية والحامية لها. بينما نرى أنّ القانون الإسلامي لم يهتمّ بتنظيم العلاقات المادية فقط للمجتمع بل سعى أيضاً وبنفس الأهمية إن لم يكن أكثر إلى تنظيم العلاقات غير المادية وتهذيبها ووضع الموازين العامّة لها باعتبار أنّ التفاعل بين الجانبين المادي والمعنوي من الإنسان واقع ومحقّق ولا بدّ من صيانة كلا الجانبين من الإنحراف ويعتبر الإسلام أنّ الطغيان للإحتياجات المادية عند الإنسان على حياته سببه عدم وجود التوازن الناتج عن التفريط بالجانب المعنوي والروحي من الإنسان لصالح الجانب المادي ومن هنا نفهم لماذا حارب الإسلام الإنزواء عن الحياة التي تعني الرهبنة وحارب في الوقت نفسه الإفراط في التوجّه نحو الدنيا، ومن الآيات المشيرة إلى ذلك قوله تعالى: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق}[14]، وقوله تعالى: {ورهبانية ابتدعوها ما كتب لها عليهم إلاّ ابتغاء رضوان لله}[15]، حيث يتّضح أنّ الإسلام قد أباح للإنسان التمتّع بلذائذ الحياة بشرط أن تكون من الطيّبات بمعنى ممّا أحلّه الله لا ممّا حرّمه وفي نفس الوقت يحارب فكرة الرهبنة التي تعني التفريط بالإحتياجات المادية لأنّ هذا العمل يؤدّي إلى حصول نقصٍ في الطاقات ممّا يؤدّي بالتالي إلى حصول ضغط ينتج عن كثرة الإحتياجات المادية وقلّة المنتج لها وهذا فيه خللٌ واضح ولهذا لم يشجّع الإسلام مثل هذه الأفكار بل وحارب الجانب السلبي منها كما حارب جانب الإفراط فيها كما قال تعالى: {لكن الذين اتقوا ربّهم لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وما عند الله خيرٌ للأبرار}[16] ،وقوله تعالى: {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}[17]، وقوله تعالى معرباً عن عاقبة الذين ينصرفون إلى ملذّات هذه الدنيا من دون الإهتمام بأمر الآخرة ومن دون أن يمدّوا يد العون للمجتمع عند الحاجة إليهم وإلى إمكانياتهم. حيث يحذّرهم من مغبّة ذلك التوجّه والإنحراف غير المتّزن نحو الدنيا وذلك هو: {والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذابٍ أليم}[18]، وقوله تعالى أيضاً: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}[19]. ومن هنا نرى أنّ القوانين الوضعية لم تعط أيّة أهمية تذكر للجانب المعنوي غير المادي من الحياة باعتبار أنّه لا يشكّل قيمة مادية بنظرهم يمكن أن تساعد على تحقيق الإكتفاء للمجتمع بل تُرك تقرير الإلتزام بالأمور الروحية والمعنوية إلى الأفراد. بعد هذا العرض يمكن أن نستخرج منه عدّة نقاط تعتبر الفوارق الأساسية بين القانون الإلهي والقانون الوضعي وهي:
النقطة الأولى: أنّ القانون الوضعي معلول للحياة الإجتماعية بمعنى أنّ التوسّع في العلاقات الإجتماعية والتداخل فيها هو الذي فرض على الحياة تلك وجود النظام ليحفظ الإحتياجات للجميع من كافّة النواحي المادية الصرفة من دون أن يلحظ ذلك القانون دور الأمور الروحية في تحقيق التوازن المطلوب حتّى لا يكون هناك إفراط ولا تفريط، بينما القانون الإلهي ليس معلولاً للحياة الإجتماعية ولكنّه جاء لكي يرفع مستوى الحياة الإجتماعية إلى الحدّ الذي يريده المشرِّع وعليه فتكون العلاقات الإجتماعية بشكلها المتوازن معلولة له وناشئة عنه.
النقطة الثانية: أنّ القانون الوضعي لا يمكن أن يحمل الصفة العمومية الشمولية لكلّ إنسانٍ في أيّ زمانٍ ومكان باعتبار أنّه ينطلق في تشريعاته من واقع الحياة المحدودة زماناً ومكاناً ولهذا فهو لا يحمل عنصر الثبات والمرونة بل ينتظر ما يطرأ على الحياة الإجتماعية من تعقيد فيحاول إيجاد الحلول اللازمة لمعالجة الوضع القائم فقط ولا يمكنه وضع الحلول للمستقبل إلاّ في حالاتٍ نادرة جداً، ولهذا فالقانون الوضعي يتّسع باتّساع الحياة الإجتماعية ويضيق كلّما كانت العلاقات القائمة قليلة، وهذا على العكس من القانون الإلهي إذ باعتبار أنّ الزمان والمكان بالنسبة إلى الخالق لا يتصوّر القصور في ذاته المقدّسة بالنسبة لهما فكلّ الأزمنة والأمكنة سواء بالنسبة إليه ولهذا فإنّ أحكام الإسلام تتميّز بميزتي الثبات والمرونة لاستيعاب كلّ ما يطرأ على الحياة من مستجدّات في أيّ زمانٍ أو مكان ولهذا نرى أن لا سلام في عقيدتنا نحن المسلمون صالحٌ لزماننا كما كان صالحاً للجيل الأول من المسلمين بلا فرق بيننا وبينهم إلاّ من حيث الإنحصارية في الزمان والمكان لا أكثر، ومن هنا نرى أنّ القانون الإلهي لا تعدّدية فيه لأنّه يتميّز بصفة الشمول والإستيعاب بينما القانون الوضعي نراه متعدّداً بتعدّد المجتمعات البشرية وتعدّد الزمان والمكان الذي تتواجد فيه الحياة الإجتماعية العامّة.
النقطة الثالثة: أنّ القانون الوضعي يكون وجوده وعدمه مرتبطاً بالجماعة البشرية التي صاغته وشرّعته فطالما هي موجودة وفاعلة يتحقّق لقانونها الحياة أمّا إذا هُزِمت أو اندثرت فإنّ قانونها سيهزم أيضاً أو يندثر معها ويصبح ذكرى من ذكريات التاريخ وأثراً من آثار الإنسانية بشكلٍ عام، وهذا بعكس القانون الإلهي الذي تدرّج شيئاً فشيئاً من خلال الرسالات حتّى اكتمل بالرسالة الإسلامية الباقية طالما أنّ الحياة البشرية قائمة.
النقطة الرابعة: أنّ القانون الوضعي لا يلحظ إلاّ الجانب المادي من الحياة لأنّه ينطلق من أساس أنّ الله وقضية الإيمان به ليس لها أثر ولا مدخليّة في الحياة من ناحية القضايا المادية ولهذا لم يعطها القانون الوضعي أهمية في حياته بينما على العكس من القانون الإلهي الذي كما بينّا من خلال الآيات أنّه يعطي قضية الإيمان بالله بُعداً إجتماعياً وإنسانياً ويعتبرها الركيزة الأساسية للحياة عبر البيان الوارد في الشريعة بأنّ الإنسان يعيش الدنيا لا لذاتها بل لأنّها طريقٌ إلى الآخرة التي هي الحياة الحقيقية التي ينبغي على الإنسان أن يحاول الوصول إليها.
بعد كلّ هذه المقدمات وبيان الفروقات الكليّة بين القانون الإلهي والقانون الوضعي نستطيع أن ننطلق لبيان دور العلاقات الإجتماعية في عملية التغيير مستندين في ذلك إلى المفاهيم الإسلامية وسنة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله باعتباره أكبر مُصلحٍ إجتماعي في التاريخ البشري باعتراف الآخرين بذلك فضلاً عن المسلمين.
الأساس الأول لتغيير العلاقات الإجتماعية: إنّ عملية التغيير للعلاقات الإجتماعية لا يمكن معالجتها بشكلٍ منفصل ومستقلّ عن عملية التغيير في أنماط العلاقات الأخرى الموجودة في المجتمع، لأنّ الأساس لكلّ أصناف التغيير في أنواع السلوك الإجتماعي العام مترابطة بشكلٍ لا يقبل الإنفصال للبعض عن البعض الآخر، ولهذا فإنّ هناك أُسساً عامّة لا بدّ من توفّرها، وتهيئتها لكي تتمّ عملية التغيير بشكلها الطبيعي السليم الذي يحقّق الأهداف الإجمالية والتفصيلية المطلوبة، ولهذا فإنّ النظرية الإسلامية في هذا المجال ترى أنّ الأساس الأول والمبدأ الأول هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى باعتبار أنّه الخالق والمكوِّن، وتوحيده كذلك وأنّ هذا الإيمان ليس إيماناً تجريدياً محضاً بل له توابع ومستلزمات لا بدّ من الإلتزام العملي بها من خلال استيعاب فكرة التوحيد بشموليّتها التي ينبغي أن تتحقّق ضمن الحياة الإجتماعية وحدة متكاملة على كلّ العدد. ولا يكفي الإلتزام الفكري المجرّد عن التطبيق خاصّة عندما نلاحظ الأحاديث والآيات التي تربط بين الإيمان والعمل ربطاً لا يقبل الإنفكاك كقوله تعالى: {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين}[20]، ومثل الروايات الدالّة على أنّ الإيمان دعوى تحتاج إلى شاهدين هما الإقرار باللسان والعمل بالأركان وأوضح ما عُبِّر به عن هذا المعنى هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام) "الإيمان عقدٌ بالقلب وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالأركان".
الأساس الثاني لتغيّر العلاقات الإجتماعية: قلنا في النقطة السابقة أنّ مجرّد الإيمان بالله عزّ وجلّ لا يكفي بمجرّده بل له مستلزمات واقعية وعملية لا بدّ من حصولها وتحقّقها، إلاّ أنّ الوصول إلى هذه النتائج يتوقّف على مدى إدراك المؤمنين بالله سبحانه وتعالى على الأبعاد العملية لحقيقة الوجود الإنساني في هذه الأرض وهي إعمار الأرض وتحقيق الخلافة الإلهية الفاعلة التي تحقّق الأهداف والغايات ألا وهي العبادة لله بالمعنى الأعم الشامل لكلّ مفردات الحياة الفكرية والعملية من خلال قوله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون}[21]، حيث نفهم من خلال هذه الآية والآيات التي تتحدّث عن مبدأ خلافة الإنسان في الأرض أنّ القضية لا تقف عند حدود إصلاح الفرد لنفسه وفقط، بل عليه أن يعيش الشعور الإنساني الصادق الذي يجعل عند الإنسان حالة يمكن أن نسمّيها بالضمير الحي التي تجعل الإنسان ينطلق في مفردات سلوكه من تلك الخلفيّة الإنسانية الواسعة التي تجعل الإنسان مسؤولاً حتّى عن البهائم في هذا العالم فضلاً عن البشر، هذه الروحية نرى أنّ الإسلام قد ركّز عليها كثيراً وذلك ضمن الآيات والأحاديث الكثيرة والتي تتحدّث حتّى عن التفاصيل الدقيقة في هذا المجال وكنماذج من ذلك ما ورد في القرآن الكريم :{والذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون}[22]، وقوله تعالى: {إنّما المؤمنون أخوة}[23]. ومن الأحاديث مثل ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "ربّ أكلة منعت أكلات" ،ومثل الرواية الواردة عن محمد بن عجلان قال: "كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل رجل فسلّم فسأله (عليه السلام) – كيف من خلَّفت من إخوانك؟ - قال: فأحسن الثناء وزكّى وأطرى فقال: كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ فقال: قليلة، قال: فكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال: قليلة، فقال: فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ قال: إنك لتذكر أخلاقاً قلَّما هي فيمن عندنا، قال: فقال: كيف تزعم هؤلاء أنّهم شيعة؟". فمن خلال الآيات والروايات نرى أنّ الإسلام قد ركّز على هذه المسألة من جانبين يمكن أن نسمّي أولهما الجانب الإيجابي وثانيهما الجانب السلبي.
الأول- الجانب الإيجابي: وهذا الجانب يعمل الإسلام على تنميته من خلال جعل الإنسان المسلم يحسّ بمسؤوليته الشرعية من خلال ترغيبه بالبذل والعطاء في سبيل الله سبحانه وتعالى باعتبار أنّ الإنسان لا يعيش الدنيا لذاتها بل يحاول الإسلام أن يربط الإنسان أولاً بآخرته لتكون هي المنطلق الأساس للتعامل مع أمور الحياة من كافة جوانبها وخاصة في الجانب الإجتماعي المسمّى بمبدأ التكافل الإجتماعي الذي يسعى الإسلام إلى تعميقه وترسيخه في نفوس المسلمين ولهذا نجد الآيات الكثيرة التي تتحدّث عن هذا الجانب الإيجابي لما يحمل من المعاني الإنسانية النبيلة التي تحقّق للإنسان وجوده الحقيقي الفاعل كما ينبغي أن يكون في الواقع. ولعلّ أوضح ما يدلّ على ذلك من القرآن قوله تعالى :{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلةٍ مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسعٌ عليم}[24].
حيث تخلق مثل هذه الدعوات الإلهية الأجواء النفسيّة عند الإنسان ليقبل طائعاً مختاراً على بذل كلّ ما أمكن من أجل محاولة رفع المستوى الإجتماعي لقليلٍ أو كثيرٍ من احتياجات الأمّة ليتحقّق التوازن المطلوب في المجتمع الذي يجعله كلاً مترابطاً يشعر فيه المرء بوجوده وبقيمة حياته بدلاً من أن يتحوّل المجتمع إلى فئات متناحرة تنتظر كلّ منها الفرصة المناسبة للإنقضاض على الأخرى كما نراه حاصلاً في المجتمعات التي لا تقيم وزناً لمثل هذه القضايا الإيمانية ومدى أثرها وفعالية دورها على صعيد الأمّة بشكلٍ عام، إنّ هذا الجانب الإيجابي من تعامل الإسلام مع هذه المسألة إنّما ينطلق من ملاحظة الإسلام للجانب الإجتماعي من حياة الفرد لمحاولة التقليل من تأثير العوامل التي قد تشدّ الفرد إليها لتحصره ضمن أفق ذاته فينصرف عندئذٍ إلى معالجة قضاياه الشخصية فقط من دون أن يأخذ في الإعتبار حاجات الآخرين، وذلك لأنّه كلّما قلّ الإحساس الإجتماعي عند الإنسان كلّما قوي جانب المصلحة الشخصية فيه والعكس صحيح أيضاً فكلّما قويت حالة الإحساس الإجتماعي عند الفرد كلّما ذاب في هذا الجو ليعيش هموم الآخرين وآلامهم وتضعف عنده ملكة حبّ الذات حتّى تصل إلى حدّ الإيثار على النفس وتقديم الآخرين عليها، وأقلّ مرتبة من الحسّ الإجتماعي المطلوبة إسلامياً هي أن يقدّم الإنسان المصلحة التي تعود للمجتمع على مصلحته الشخصية إذا حصل التعارض بينهما وكان تحصيله لمنفعته الشخصية على حساب الآخرين ومصالحهم، وهذا المعنى يمكن استكشافه بوضوحٍ من خلال الروايات الدالّة على مدى ما للإنسان الذي يفطر صائماً من الأجر والثواب فإنّ مثل هذه الروايات تشير إلى هذا المعنى (فعن الإمام الباقر (عليه السلام) فرض الله الصيام ليجد الغني مضض الجوع فيحنو على الفقير). هذا التعليل من الإمام (عليه السلام) إنّما هو لكي يحسّ المسلم أنّ صيامه وأنّ إفطاره لغيره ليس مجرّد عملية حسابية أو عقلية من أجل تحصيل الأجر والثواب الأخروي وإنّما هدفها الدنيوي أيضاً هو إشاعة جو الأخوّة الحقيقية بين البشر. بحيث لا تكون مجرّدة عن العوامل الروحية والحسّ الإجتماعي الذي يجعل الإنسان متجاوزاً لمسؤولية نفسه ليشعر أنّه مسؤول عن المجتمع ككل.
الثاني- الجانب السلبي: وهذا الجانب أيضاً قد أولاه الإسلام عناية خاصّة لأنّ مجرّد الترغيب قد لا يدفع الإنسان دائماً إلى القيام بما يستلزم حصول ما يرغبه به الله سبحانه، باعتبار أنّ ما يعده الله به هو أمرٌ ليس حاضراً أمامه، بل هو قضية وعد قد لا يتعامل الإنسان معه كتعامله مع الأمور الواقعية التي يعيشها فعلاً، ومن هنا نجد أنّ القرآن الكريم وكذلك السنّة الشريفة قد ذكرت هنا الأمر كثيراً وشدّدت عليه حتّى يصبح قضية يعيشها الإنسان المؤمن بالله فعلاً ولكي يتعامل معها بصدقٍ خوفاً من العقاب وطمعاً في المغفرة والثواب وفي الآيات التالية دلالة واضحة على هذا الأمر مثل قوله تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلاّ من آمن وعمل صالحاً}[25]، وقوله تعالى شأنه: {إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين}[26]، و{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم نارا}[27]. ومن هذا القبيل الآيات التي تنفّر من الدنيا وأنّها ليست هي الدار الحقيقية التي يجب على الإنسان أن يعمل من أجلها كهذه الآية المشيرة إلى هذه الحقيقة الإسلامية :{وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}[28] ،وقوله تعالى: {إنّما أموالكم وأولادكم فتنة}[29] ،قد تجر إلى العذاب وإلى البلاء والشقاء في الدنيا والآخرة أيضاً وكذلك قوله تعالى: {ومن يرد حرث الدنيا نؤته منها ومن يرد حرث الآخرة نزد له في حرثه}[30] ،فمن ضمن هذا التوجيه الإلهي للمسلم في الحياة تتكامل النظرة الصحيحة لحقيقة الوجود الإنساني وأنّ عليه أن ينظر بعينٍ إلى الدنيا وبعينٍ أخرى إلى الآخرة محاولاً من خلال هذه العملية الترابطية أن يسير في الدنيا نحو الهدف من دون أن يقع في حبائل الدنيا كلياً ومن دون أن يعيش السلبية المطلقة تجاه الدنيا أيضاً، فالنتيجة من خلال كلّ ذلك هي خلق حالة الإحساس في الفاعل الذي يتعامل مع الآخرين كتعامله مع نفسه تماماً فكما يحبّ لها يحبّ لغيرها وكما يكره لها يكره لغيرها. إذن إلى هنا نرى أنّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى والإحساس الوجداني النابع من إدراك الإنسان لموقعيّته الرائدة والمميزة في الحياة هما اللذان يدفعان بالإنسان إلى العمل والسعي الدؤوب من أجل رفع الشقاء والبؤس عن كاهل الناس المستضعفين الذين يذوقون الأمرّين من جرّاء قسوة الواقع الذي لا يرحم في كثيرٍ من الأحيان نتيجة الأوضاع المنحرفة الشاذّة التي توجد في المجتمع.
نظرة إلى الواقع الاجتماعي المعاش: إنّنا إذا تأمّلنا في المجتمع الذي نعيش فيه حالياً وحاولنا أن نشخّص الأمراض الإجتماعية التي تتفشّى فيه يمكننا القول إنّ منبع ذلك هو مجموعة من القضايا والأسباب التي لم تُعاَلج في أوقاتها المناسبة، ممّا سمح لهذه الحالة غير السليمة أن تنمو داخل كيان المجتمع إلى أن وصل حالياً إلى مستوى بعيدٍ من الإنحطاط واللامبالاة من كثيرٍ من الناس في التعامل مع الواقع المُعاش نتيجة اليأس من أوضاعهم التي يعيشون أولاً وعدم وجود حالة الأهل لديهم بالتحسّن في المستقبل ممّا حطّم آمال كلّ الناس المستضعفين الذين يجاهدون ويشقون من أجل لقمة العيش للحفاظ على حياتهم وأرواحهم.
إنّ الأمر قد وصل إلى حدّ أنّ الإنسان لم يعد قادراًعلى رسم الخطوات لحاضره ولا لمستقبله لعدم الإطمئنان بذلك المستقبل الذي ما زال غامضاً إلى الآن من دون وجود أيّ بصيص أمل في الخلاص من هذا الواقع الفاسد إنّ كلّ هذا الواقع المنحرف مردّه إلى فقدان الإيمان بالله سبحانه كما ينبغي أن يكون ذلك الإيمان وإلى ما يصحّ أن نعبّر عنه بحالة الضمير الميّت الذي يعني في حقيقته الذوبان الكامل في الدنيا الذي جرّ على هذا الشعب وعلى غيره من الشعوب الفقيرة في العالم الويلات والخراب وهذا مطابق لما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الوارد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) :(حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة)، وهو المدخل لكلّ أنواع الفساد والشرور بكلّ أنواعها وعلى كلّ الصور المتعلّقة بالحياة الإجتماعية العامة.
الترابط بين العلاقات المادية والإنسانية[31]: قلنا في أوّل الأبحاث أنّ للإنسان نوعين من الإحتياجات هي المادية والإجتماعية، وتصنيف الحاجيات إليهما لا يعني بالضرورة، انفصالهما عن بعضهما البعض، بل على العكس من ذلك هنالك ترابط وثيق بينهما فيؤثّر أحدهما في الآخر إيجاباً وسلباً ضمن حركة المجتمع، فسلامة العلاقات الإنسانية تؤثّر في دفع العلاقات المادية إلى الأمام نتيجة الإحساس العام الذي يسود ضمن المجتمع وعدم سلامة العلاقات الإنسانية تؤدّي إلى بروز حالة من الصراع الخفي تارة أو العلني أخرى نتيجة الإهمال الذي يصيب قطاعات معيّنة من الأمّة التي ستشعر عند ذاك بسحق كرامتها ووجودها على مذبح شهوات فاقدي الحسّ الإنساني الإجتماعي، إلاّ أنّ النظرية الإسلامية في هذا المجال كما أشرنا جعلت للتوازن في العلاقات المادية بين البشر أساساً مهمّاً لا يمكن إغفاله هو العلاقات الإنسانية التي تدفع بالإنسان عند إيمانه واقتناعه بها إلى السعي لتحقيق العدالة في العلاقات المادية في حياة المجتمع، وبدون هذا الإحساس بقيمة العلاقات الإنسانية لا يمكن تصحيح الأوضاع إلاّ بنحوٍ جزئي من خلال استحداث قوانين معيّنة توحي في ظاهرها إعطاء الحل المناسب وتأمين التوازن المطلوب على الصعيد المادي، إلاّ أنّ ذلك بالحقيقة أشبه بالمهدّىء أو المسكّن الذي يوصف للمريض وتكون وظيفته مجرّد تبريد الألم وتسكينه لا محاولة القضاء عليه حتّى لا يزداد، وهذا الأمر ملاحظ على صعيد كلّ المجتمعات التي اتّخذت من القوانين الوضعية أساساً لتشريعاتها ولتنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات، وهذه القضية تجري على معظم البلاد الإسلامية أيضاً ممّن جارت الدول الأخرى في جعل القوانين هذه هي المصدر الأول والأساس للتشريع عندها.
الدور السلبي للعلاقات الإجتماعية المضادّة: انطلاقاً من الترابط في الحياة الإجتماعية العامّة فالتداخل حاصل كما قلنا بين نوعي العلاقة الأساسيين في حياة البشر وهما الإحتياجات المادية والإنسانية وتأثير كلّ واحدة منهما في الأخرى ممّا لا مجال لإنكاره وأكبر الدلائل على ذلك هو ما طرأ على حياة مجتمعاتنا نتيجة ظروف قاهرة وقاسية عشناها طوال قرون انصرمت إلاّ أنّها تركت بصماتها على حياتنا بصورةٍ قاسية ومؤلمة، ممّا سهلت للإستعمار أن يُدخل إلى حياتنا مفاهيمه الجديدة على صعيد العلاقات الإنسانية منطلقاً في ذلك من دراسته للأوضاع التي كنّا نعيشها ضمن أجواء الفقر والجهل والتخلّف التي استغلّها ونظَّم عملية الإستغلال لها بالشكل الذي حقّق له أهدافه كاملة تقريباً، ذلك الإستقلال الذي أدّى في نهاية الأمر إلى ربط الكثير من بلاد العالم التي كانت تعيش حالة الإنحطاط بحركة الإستعمار واستطاع أن يسيطر عليها فكرياً واجتماعياً وسياسياً وعسكرياً حتّى صارت ألعوبة بيده يحرّكها كيف شاء ومتى شاء بالطريقة التي تحقّق له طموحاته وأهدافه، وذلك من خلال مؤسساته التبشيرية التي كانت تعمل تحت غطاء المؤسسات الصحية والتربوية والإجتماعية والمساعدات التي اتّخذها رأس جسر لتغلغله الفكري والثقافي مستغلاً ضعف البنية الإجتماعية والفكرية والتنظيمية لمجتمعات العالم المستضعف ومنها العالم الإسلامي الذي كان يرزح تحت كابوسٍ من الظلم والقهر، كلّ ذلك أدّى في نهاية المطاف إلى إيجاد الحاجز النفسي بين الإسلام كفكر وبين المسلمين كمجموعة بشرية كان ينبغي لذلك الفكر الحرّ أن يحرّكها ويدير حياتها وينظّم علاقاتها على كلّ الصعد، حتّى وصل الأمر بنا إلى أنّنا لم نعد مستعدّين لأن نتكلّم حول الدين والإسلام لأنّ ذلك لا يتوافق مع موضة العصر ، وتمّت بذلك عملية المسح الثقافي والفكري والحضاري، من دون أن نستطيع أن نردّ على تلك الهجمة الردّ المناسب لأنّنا كنّا عاجزين محطّمين غير قادرين على الدفاع نتيجة ضغط الأوضاع القاسية وشمولية الهجوم المعادي ضدّ فكرنا وحضارتنا، كنّا نعيش حالة الإنهزام والتقهقر من دون أن يهزمنا الآخرون، لأنّ المهزوم من داخله لا يقدر على المقاومة ورد العدوان، وكانت ارتاحت أجيالنا وبدأت الركض سريعاً للحاق بالحضارة المادية التي سوف توفّر لها كلّ مستلزمات ومتطلبات الحياة من دون الرجوع إلى الماضي وإلى التراث باعتبار أنّه حلقة من حلقات التاريخ ولا يمكن الإستفادة منها لتاريخنا المعاصر وللتخطيط لمستقبلنا ومستقبل أجيالنا التي نحن مسؤولون عن وضع البرامج لحياتها، فإن لم نعمل من الآن على تقييد هذا الواقع فذلك يعني إلقاء الأمّة في فم المستكبرين من القوى العالمية لتتلاعب بمصيرها ومقدّراتها كما تشاء.
الفساد الأخلاقي ودوره في تعقيد الحياة الإجتماعية:
إنّ النتيجة الطبيعية لفقدان الإيمان بالله سبحانه وتعالى وعدم التحلّي بالمعاني الإنسانية التي تحترم في الفرد البشري إنسانيّته ووجوده، سوف يتلازم ذلك مع فساد أخلاقي رهيب يغرق الحياة الإجتماعية، بالمكاسب البشرية والأهوال المعيشية بحيث يصعب على غير المقتدر العيش بهدوء وسلام، لأنّ حياة هؤلاء العاجزين ستكون حياة قلقة مهزوزة معرّضة للخطر الإنحرافي عند اشتداد وطأة الواقع الفاسد الذي يجرّ إلى مثل هذه الممارسات اللاأخلاقية نتيجة التعقيد في الأوضاع الإجتماعية العامّة، ولهذا فإنّه عندما تكون الحالة في المجتمعات بطريقة غير سليمة بمعنى أنّ الفرص للحياة الكريمة لكلّ الناس لا تكون متكافئة ومتكاملة فإنّ العدالة الإقتصادية وبالتالي العدالة الإجتماعية سوف تكون معدومة محصورة ضمن طبقة معيّنة من أبناء ذلك الشعب فقط على أحسن طرز وأجود نسبة من حيث الترف المادي والبذخ غير المحدود والتمتّع بالإمكانات المتوفّرة، كلّ ذلك على حساب الحشود المسحوقة من أبناء الأمّة المحرومين من لذّة العيش، واستمرار هذا الوضع يؤدّي بالتالي إلى تقليص الوضع المادي للأمّة يوماً بعد يوم حتّى تصل الحالة إلى تجميع الثروة في يد أفرادٍ أو جماعات محدودة من أبناء الأمّة كما يخبرنا القرآن عن ذلك :{كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}[32] لأنّ الحالة التي تصل إلى هذا المستوى سوف تجعل من هذه الفئة غير المؤمنة والتي لا تمسّ بالأحاسيس الإنسانية نتيجة غلبة التوجّه المادي في حياتهم سوف تخلِّف في المجتمع كوارث إجتماعية تكون المدخل لكثير من ألوان الفساد في السلوك في المجتمع من سرقة وقتل واعتداءات على أموال الناس وممتلكاتهم، كما نرى ذلك بوضوح في كثير من المجالات، مُضافاً إلى الفساد الأخلاقي، والآية القرآنية الكريمة التالية تشير إلى ذلك بوضوح :{أرأيت الذي يكذّب بالدين فذلك الذي يدعّ اليتيم ولا يحضّ على طعام المسكين فويلٌ للمصلّين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون}[33].
الترابط بين المقدّمات وأسس التغيّر الإجتماعي: إنّ مجرّد الإيمان بالله عزّ وجلّ والإحساس الإنساني الذي يعمل الإسلام على زرعه في نفوس أتباعه، قد لا يستطيع أن يحقّق الفوائد الإجتماعية كاملة، لأنّ العطاء عند ذاك قد لا يتجاوز حدود كفاية بعض الأفراد من دون الأخذ بعين الإعتبار الحالة الإجتماعية العامّة، ولكن عندما نربط بين أساسي التغيير للعلاقات الإجتماعية مع المقدّمات العامّة ويشعر هذا المؤمن بأنّ المجتمع هو وحدة متكاملة مترابطة لا يمكن الإنفصال بين وحداتها ومجموعاتها، وعندما يشعر أنّ الحياة الإجتماعية لها مستلزمات وتوابع لا بدّ من أخذها بعين الإعتبار.
وكذلك عندما يعلم أنّ القانون إنّما وضع للنهوض بالمجتمع إلى المستوى الإنساني اللائق عبر لحاظه لمصلحة كلّ من الفرد والمجتمع وأنّ القانون الإلهي يتميّز عن القوانين الوضعية بثبات تشريعاته التي لم يلحظ فيها الزمان الخاص ولا الجهة الخاصة لاشتراك الأزمنة والأمكنة مطلقاً في هذه الجهات، إنّ هذا الربط بين كلّ ذلك، لا شكّ يجعل نظرة الفرد المؤمن نظرة فيها شمولية أكثر ويحسّ بمسؤولية أكبر، لأنّ قوّة الإحساس الإنساني الذي يتحرّر من أسر الفردية وعبودية الذات والذوبان ما أمكن في خدمة المجتمع هو مطلب إلهي وإسلامي، وكلّما قوي هذا الشعور كلّما كانت الجهود التي سوف تبذل أكثر وسوف تكون هادفة بشكلٍ جيد، ممّا يعين المسيرة على الوصول إلى أهدافها عبر الوسائل الصحيحة والسليمة، لأنّ المؤمن سوف يشعر عند ذاك بحالة تأنيب الضمير عند التقاعس أو عدم الإهتمام كما ينبغي، ومن أروع ما قيل في هذا المجال ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان يمثل الحالة النموذجية من هذه الجهة التي ينبغي أن تكون القياس لنا في توجّهاتنا الإجتماعية وهو قوله (عليه السلام): (ولو شئت لاهتديت الطريق مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكب حرى، أو أكون كما قال القائل (وحسبك داءً أن تثبيت ببطنة وحولك أكباد تحنّ إلى القد) أأقنع من نفسي أن يُقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد لها). ومن هنا إذن، فإنّ أيّ عملٍ إجتماعي يُراد له أن ينطلق في حياة الأمة من أجل خدمتها والسعي للرقي بها إلى المستوى اللائق إنسانياً ومادياً، لا بدّ وأن يلحظ كلّ النقاط السابقة مجتمعة لتكون أيّ خطة إجتماعية كلاً منسجماً مترابطاً، فلا تضيع عند ذاك الجهود سدى، ولا تنفق التكاليف في غير أماكنها الصحيحة، ولهذا فإنّ الكثير من أعمالنا وخدماتنا الإجتماعية الآن وقبل الآن ما زالت منصبّة على ناحية معيّنة وهي كفاية حاجة الفرد بما هو فرد، ولا تنطلق من الناحية الشمولية للمجتمع، وهذا ما يلاحظ بوضوح في كثيرٍ من المجالات، إلاّ أن يُقال إنّ قسوة الواقع المُعاش وصعوبة تحصيل لقمة العيش هي التي فرضت هذه الحالة من التوجّه في العمل الإجتماعي في الظرف الحاضر، إلاّ أنّ ذلك أيضاً لا يشكّل مبرّراً منطقياً كافياً، لأنّ المجتمع لا تتحسّن أوضاعه بمجرّد أن نكفي بعض الأفراد بحيث تنحصر الفائدة فيهم مع إمكانية تعميم الفائدة على أكبر قدرٍ ممكن، هذا من الناحية المادية، مُضافاً إلى معظم الأعمال الإجتماعية لا تأخذ بعين الإعتبار مدخلية الأمور الإنسانية والأخلاقية في هذا المجال، مع أنّ هذه النواحي لا يمكن إغفالها نظراً لما قلناه من الترابط بين الحاجيات المادية والإنسانية في حياة الناس وأنّ الحاجيات الإنسانية والأمور الأخلاقية هي الضمانة الأولى والأساسية التي تصحّح الكثير من الأوضاع المادية المتردّية في حياة المجتمع ككل، حتّى لا تشكّل الحاجة المادية التي كلّما ضغطت على الإنسان كلّما قربته من دروب الفساد وسلوك السبل المنحرفة للحصول على لقمة العيش ولو بالقوّة من الذين يحرمونه لذّة الحياة والإستمتاع بالدنيا كما ينبغي ولهذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله :(لو كان الفقر رجلاً لقتلته أو لقطعته نصفين)، فإنّه (عليه السلام) كان ناظراً إلى ما يشكّله ضغط الحاجة المادية على الإنسان ومدى خطرها باعتبار أنّها تهيىء الأرضية للدخول في الطرق والسبل غير الصحيحة للإشباع لتلك الحاجيات وكذلك ما ورد عن أبي ذر الصحابي الجليل رضوان الله تعالى عليه عندما قال: (عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه). من خلال كلّ هذا يتّضح لنا أنّ العلاقات الإجتماعية بشقيها المادي والإنساني لا يمكن وضع حواجز بينهما فتعمل على كفاية المجتمع من إحدى الجهتين وتترك الأخرى، بل لا بدّ من العمل على خطّين متوازيين لكي نضمن سلامة النتائج التي نريد الوصول إليها لكي نشيع في المجتمع الجو الإنساني الذي يشعر فيه المرء فقيراً كان أم غنياً بنعمة الحياة المفاضة علينا من الخالق العظيم فلا يخجل الفقير لفقره ولا يستعلي الغني بغناه، طالما أنّ الإحساس الإنساني هو الذي يربط بينهما وكلّ منهما ينطلق منه ابتداءً في نظرته إلى الطرف الآخر، وهذا برأينا الضمان الأكبر للحياة الإجتماعية الهادئة التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يسعى إلى التغيير الشامل بعد توفّر العناصر الكليّة الأساسية وهي سلامة التوجّهات الفكرية والإجتماعية والسياسية في المجتمع لأنّ هذه الركائز تعتبر الأصول الرئيسة لأيّ عملية تغييرية جذرية يُراد للأمّة أن تصل إليها.
الخطوط الأساسية لعملية التغيير الإجتماعي: إنطلاقاً من كلّ ما سبق يمكن لنا الآن أن نضع الخطوط العامة التي إذا توفّرت وتهيّأت الوسائل اللازمة لها أن نطمئنّ نوعاً ما إلى إمكان حصول التغيير على مستوى العلاقات الإجتماعية بشقيها، إذا ترافق ذلك مع توفّر عناصر التغيير الأخرى في الخطّ أو الخطوط الموازية الراجعة كلّها إلى نفس المبدأ والفكر الواحد. أمّا الخطوط الأساسية العامّة فيمكن تحديدها فيما يلي من حيث الناحية المادية وهي:
أولاً: تنظيم وتحديد الحاجات الفردية.
ثانياً: تحديد الحاجات العامّة.
ثالثاً: تحديد الأولويات حسب الحالة الإجتماعية المعاشة للفرد والمجتمع.
رابعاً: الخطوط العملية للخطّة الإجتماعية وربطها بعملية التغيير.
خامساً: مراقبة تنفيذ الخطة الإجتماعية.
أمّا تفصيل النقطة الأولى فهي أنّ الحاجيات الفردية يمكن تقسيمها إلى نوعين – الأول – الإحتياجات الطبيعية – التالي – الإحتياجات الثانوية – والمراد من الإحتياجات الطبيعية هي التي لا يمكن للحياة أن تستمرّ بدونها كالمأكل والمشرب والمطعم وكلّ ما يرجع إلى هذا المعنى، والمراد من الثانوية هي المعبّر عنها بالكماليات الإقتصادية. وكلّ من هذين النوعين ممّا يلزم للحياة البشرية بشكلٍ عام للمنافع الحاصلة من كلّ واحدٍ منهما والتي تساعد الإنسان على القيام بواجباته وبدوره في الحياة كما ينبغي أن يكون.
وأمّا تفصيل النقطة الثانية فهي أنّ حاجيات المجتمع ككل مترابطة تكمن في المرافق العامّة من صحية وإنسانية وتربوية وخدماتية وتشغيلية إن صحّ مثل هذا التعبير وبعبارةٍ مختصرة حاجة المجتمع تكون إلى المؤسسات التي تعود منافعها إلى المجتمع ككل وإن كان هذا المعنى ينحلّ إلى رجوع المنفعة إلى الأفراد كلّهم بنسبةٍ معيّنة، حتّى لا يستأثر البعض من الأفراد أو الجماعات بالمنافع العامّة لهذه المؤسسات التي كان أساس قيامها لخدمة المجتمع كلّه.
وأمّا تحديد الأولويات فهذا مردّه في الحقيقة إلى الحالة التي يعيشها المجتمع تطوّراً وانحطاطاً فهي نقطة متحرّكة تحتاج إلى رصدٍ دائم لمسيرة الحياة الإجتماعية حتّى يستطيع الباحث والمعالج لهذه النواحي من حياة المجتمع أن يضع الخطط الإجتماعية المتناسبة كمّاً وكيفاً مع الحالة المُعاشة، حتّى لا يفقد العمل الإجتماعي دوره المطلوب كما هو المفروض والمأمول منه، وهذه الأولويات يمكن التعامل معها على أساس التقسيم الوارد في تفصيل النقطة الأولى، فعندما تكون الحالة الإجتماعية متردّية إلى حدٍّ يجعل من حياة أكثر الناس حياةً ضاغطة فهنا لا بدّ وأن تلحظ الخطّة كفاية هذه الناحية مقدِّمة لها على الإحتياجات الكمالية باعتبار أنّ الأولى هي الأساس والثانية من قبيل المحسّنات التي تزيد الحياة الإجتماعية رونقاً وجمالاً باعتبار أنّها تضيف إلى حياة الناس أموراً يمكن أن يكون لها دورها في إشاعة جو الإلفة والمحبة والتعاون فيما لو كانت الحالة الإجتماعية المُعاشة تسير بصورةٍ جيدة.
وقبل الدخول في تفاصيل الخطوط العملية للعمل الإجتماعي ينبغي لنا من خلال ما قدمناه من مقدّمات وأسس أن نعرف الهدف المنشود للإسلام في مجال العمل هذا حتّى نتمكّن من وضع الخطط المتناسبة كمّاً ونوعاً معه، باعتبار أنّ تحديد الهدف الإجتماعي المنسجم مع نظرة الإسلام إلى الحياة ككل يعين بما لا يقبل الشكّ في تحديد الخطوات العملية. وعندما نلاحظ الآيات والروايات الواردة في جزئيات هذا الموضوع والمتعرّضة لكلياته أيضاً يمكن أن نقول إنّ الهدف المراد إسلامياً هو "وصول المجتمع من الناحية الإجتماعية إلى المستوى الأقرب أو إلى نفس المستوى الذي تطمح إليه الشريعة الإسلامية وهو أن يصبح المجتمع كلّه وحدة متراصّة مترابطة يشعر فيه كلّ فردٍ أنّ قضايا أمته هي قضاياه وهمومها همومه وليمتزج الشعور الفردي بالشعور الإجتماعي ليتحول الفارق بينهما من فارقٍ عملي ونظري معاً إلى كونه فارقاً نظرياً مهما أمكن ذلك"، وهذا بنفسه هو الهدف المراد إسلامياً من التغيير على مستوى المجتمع على صعيد الكليات الأخرى التي تحتاجها مسيرة المجتمع الإنساني في هذه الحياة كالسياسة والثقافة وغيرها.
والنقطة الأساسية التي يبنيها الإسلام للإنطلاق في ميدان العمل الإجتماعي الذي يتوجّه خصوصاً إلى رفع الحاجة عند الناس الفقراء والمستضعفين هي أنّ القيام بهذا العمل هو نوعٌ من المسؤولية الإجتماعية المُلقاة على عاتق الأفراد والجماعات القادرة فضلاً عن الدولة الإسلامية إن كان النظام الإسلامي هو المسيطر والحاكم كما هو الحال في دولة الإسلام الآن ولا ينطلق الإسلام في وضع الخطط الإجتماعية من موقع الإضطرار والخوف من حالة اليأس والتذمّر التي تصل إليها حالة الفقراء والمستضعفين كما كانت عليه الحال في أمريكا وأوروبا إبّان الثورة الصناعية التي أفرزت طبقات محتكرة وأخرى مستعبدة ترى عملها وأتعابها نهباً وجهودها ضياعاً، فانطلقت تلك الفئات بثوراتٍ متلاحقة استطاعت من خلالها أن تفرض على القوى المسيطرة أن تتنازل لها عن حقوقها الطبيعية المشروعة، ذلك التطاحن الذي نشأ من تقديس الفرد ومبادراته التي جعلوها الأساس للنهوض بالمجتمع نحو التقدّم والرقي. فالفارق للإنطلاق في العمل الإجتماعي يختلف في الإسلام عنه في العقائد الوضعية كافّة، ومن هنا فإنّ الأحكام التي يمكن تسميتها بالأحكام الإجتماعية بشكلها العام تنطلق من أصالتي الفرد والمجتمع طالما أنّ كلا الأصالتين لا تعارض بينهما، فتنتظم تطبيقات أصالة الفرد وكذلك المجتمع، وفي حالات تعارضهما من خلال التشريعات المتلاكئة مع كلّ واحدة منهما وتنظّم العلاقات أيضاً في حالات التعارض بينهما كذلك. وفي حالات تعارضهما وهذا غالباً ما يكون ناشئاً من هدر حقوق الفرد أو عدم تمكّن الفرد من الحصول على حقوقه المشروعة والمحفوظة، فإنّ الإسلام في مثل هذه الحالة جعل أحكاماً خاصة لمعالجة هذه الحالة الطارئة على حياة المجتمع ككل لأنّ تركها سوف يؤدّي قطعاً إلى تبلبل في الوضع العام ممّا يؤدّي إلى هدر الجهود والطاقات وإزهاق الأنفس والأموال كما يحصل الآن على الساحة هذه وغيرها من ساحات العالم المليء في عصرنا بهذه النماذج التي تشكّل المصاديق لهذه الحالة التي تعبّر كلّها عن المأساة الحقيقية التي يعيشها الكثير من البشر المعذّبين المحرومين من أبسط أمور الحياة. والقاعدة الأساسية التي ننطلق منها إسلامياً هي "لا غني مطلق طالما هناك جائع في المجتمع" إلاّ أنّ هذا الأمر له قيودات وحدود أيضاً تُطلب تفصيلاتها من مفردات الأحكام الشرعية وهي بشكلها الإجمالي أنّ ما تكوّن بشكل التبرّع المحض الذي لا يطلب في مقابله العوض المادي أو غيره، ومنه ما يكون في مقابلة عوضه المناسب الذي يتحمّله الفرد المحتاج بحيث يتعلّق العوض وهو المثل أو القيمة في الذمّة ويؤدّيه حال القدرة. أو الجهة المسؤولة عن ذلك الفرد الذي صار في ذلك الموقع الإحتياجي إلى الغير، أو الدولة الإسلامية حال وجودها وسيطرتها على أمور المجتمع لتطبيق شريعة الله في أرضه.
وأمّا الخطوط العامّة للعمل الإجتماعي لرفع الضائقة المادية عن كاهل المحتاجين فيمكن تقسيمها إلى جهتين – الأولى – المؤسسات ذات الطابع الفردي – الثانية – المؤسسات ذات الطابع العام – والمراد من الأولى هي كلّ من يعمل على رفع الحاجة عن الفرد بما هو فرد والمراد من الثانية هي كلّ من يعمل لرفع الحاجة عن مجموع الناس أي من المجتمع المحروم، وأمّا الخطوط التفصيلية لكلّ من النقطتين الأساسيتين فيمكن تصوّرهما كالتالي وقبل الدخول في التفاصيل لا بأس بالإشارة إلى مواضع الخلل في كثيرٍ من تصرّفاتنا من هذه الجهة وهي - أولاً -: إنّ كثيراً من المساعدات الإجتماعية تقدّم من باب الشفقة والإحسان لا من باب الشعور بالمسؤولية الشرعية التابعة عن الحسّ الإجتماعي الصادق – ثانياً – إنّ بعض المساعدات تقدّم أيضاً من باب الحياء وكأنّها تنتزع من أصحابها انتزاعاً قهرياً – ثالثاً – الفوضى والإرباك وعدم التنسيق وهذا كلّه يرجع إلى عدم وجود الخطوط العامّة لوحدة صيغة العمل الإجتماعي، بل ينطلق كلّ واحدٍ في هذا المجال من تصوّراته الخاصة حول هذا الموضوع – رابعاً – عدم المبادرة إلى استيعاب الحالات الطارئة على المجتمع ممّا يفقد المساعدات الإجتماعية فائدتها المرجوّة على المستوى المطلوب – خامساً – عدم الإستفادة من المساعدات المادية في تحسين الوضع الإنساني وإشعار المحتاجين بأنّ مساعدتهم إنّما هي من باب التكليف الشرعي لا من باب الشفقة والإحسان فقط وقد يكون هذا الأمر ناتجاً عن عدم القدرة على الإستيعاب الفوري لمثل هذه الحالات الطارئة التي لم تؤخذ في الحسبان، أو أنّ الذين يعملون في الحقل الإجتماعي لا يملكون ما يمكّنهم من القيام بذلك فلا يخطّطون لها لخروجها عن قدرتهم.
وأمّا تفصيلات المؤسسات العاملة لرفع الحاجة الفردية فيمكن تلخيصها ضمن العناوين التالية:
أولاً: الجمعيات الخيرية التي تعمل بواسطة جمع التبرّعات من الأعضاء أو غيرهم لتوزيعها على المحتاجين في المناسبات أو يكون ذلك ضمن خطّة عمل دائمة في هذا المجال.
ثانياً: المؤسسات الإنتاجية التي تخصّص قسماً من إنتاجها أو من أرباحها للتوزيع على المحتاجين والفقراء.
ثالثاً: المؤسسات التي تعمل بواسطة الحقوق الشرعية لتوزيع المساعدات على الأصناف المحتاجة.
إضافة إلى ذلك هناك وسائل أخرى لتوفير الإحتياجات الفردية يمكن إدراجها ضمن هذه الجهة منها:
أولاً: المساعدات المقرّرة بشكلٍ مباشر من الأفراد الميسورين إلى الأفراد المحتاجين، وهذه غالباً ما تتمّ عبر الطلب الشخصي من المحتاج القادر على رفع حاجته.
ثانياً: المساعدات التي تقدّم على شكل هبات من أشخاص لا يعملون ضمن مؤسسة خاصة تعنى بهذه الأمور بل إنّ اتّفاق قسم من القادرين على التبرّع المخصّص من دون وجود خطّة لهذا العمل.
والملاحظ غالباً أنّ المساعدات الإجتماعية المُعطاة إلى الفرد تشكّل نحواً من المعالجة الوقتية للمشكلة ولا يمكنها أن تستأصل المشكلة من الجذور، باعتبار أنّ عملها يكون آنيّاً مرحلياً، لا نظر فيه إلى معالجة جذور المشكلة وإنّما يعالج آثارها الظاهرة منها فقط، وليس بإمكان مثل هذه المساعدات أن تحقّق الهدف المنشود تماماً، لأنّ ذلك يستلزم وجود أرصدة قويّة ومستمرّة تبذل في هذا المجال، وهذا أمرٌ غير ميسور، ولا يمكن تيسيره بسهولة إن لم يكن هناك إستحالة عملية لا عقلية في هذا المجال، فيبقى أنّ مثل هذه الوسائل العاملة على سدّ النقص الوارد على حياة بعض الأفراد تسدّ حاجة من حاجات المجتمع وليس بإمكانها أن تفي بكلّ الحاجيات، يضاف إلى كلّ ذلك أنّ مثل هذه المساعدات قد لا تكون كافية فلا يمكنها بالتالي أن تمنع أسباب الإنحراف نحو الوسائل غير المشروعة من قبل المحتاجين لسدّ ما يتبقّى عندهم من النقص في هذا المجال، ولهذا نرى الكثير من المآسي والإنحراف نتيجة هذا الأمر من قتلٍ للأنفس في سبيل العيش ومن بيعٍ للأغراض بالثمن البخس لرفع حاجة المضطرّين أحياناً إلى ارتهان الأفراد للقوى المسيطرة هنا أو هناك فتستغلّهم تلك القوى الشاذّة والمنحرفة لتحقيق مآربها وأهدافها على حساب حاجة الآخرين إلى لقمة العيش للبقاء على قيد الحياة.
إلى هنا وبعد ملاحظة كلّ ذلك يمكن أن نقول إنّ المؤسسات الإجتماعية التي يُراد لها أن تعالج أصل المشكلة الإجتماعية من هذه الجهات ينبغي أن تأخذ بعين الإعتبار أنّ هدفها الأول هو حلّ المشكلة من جذورها وإلاّ فإنّ المشكلة سوف تظلّ قائمة ولن تنفعنا تلك المؤسسات إلاّ جزئياً أيضاً، ولهذا فإنّ عمل المؤسسات ينبغي أن تكون لديه أهداف بعيدة المدى ليصل إليها. أمّا المؤسسات فيمكن تقسيمها كالتالي:
أولاً: المؤسسات الإنتاجية.
ثانياً: المؤسسات الإنسانية.
ثالثاً: المؤسسات التربوية.
رابعاً: المؤسسات الخدماتية.
خامساً: المؤسسات الصحية.
سادساً: المؤسسات المهنية.
أمّا وظيفة المؤسسات الإنتاجية فهي من أجل العمل على استيعاب أكبر قدرٍ ممكن من العاطلين عن العمل ومن الأشخاص الذين يملكون المؤهّلات ولا تتوفّر أمامهم السبل للإنطلاق في الحياة بقوّةٍ وعزيمة نتيجة فقدهم للمقوّمات الأساسية للإنطلاق.
وأمّا وظيفة المؤسسات الإنسانية فهي رعايتها للأشخاص أصحاب العاهات الجسدية والعقلية ومحاولة تعليمهم ما يتناسب مع قدراتهم ومؤهّلاتهم حتّى يتمكّن المجتمع من الإستفادة منها بدلاً من أن تبقى طاقاتهم مهدورة من دون أن يستفيد المجتمع الإنساني منها بشيء، ولإشعار هؤلاء أنّهم كالبشر العاديين لهم حقوق وعليهم واجبات عليهم أن يقدّموها طالما أنّ ذلك ممكن.
وأمّا وظيفة المؤسسات التربوية كالمدارس والمعاهد التعليمية فإنّ عملها يعتبر أساسياً لأنّها المنطلق لبناء الإنسان المسلم القوي إن استطاعت أن تضع لها البرامج المناسبة مع الأهداف التي نريد الوصول إليها من خلالها لأنّها تردفنا وتمدّنا بالأشخاص المؤهّلين فكرياً وتربوياً على القيام بالواجب الإنساني من خلال زرع المفاهيم الصالحة عن طريقة الإسلام في الحياة، وفي نفس الوقت يمكنها أن تنقذ مثل هؤلاء الأطفال أو الشباب من أن يلجئوا إلى الآخرين الذين يستغلّون حاجتهم إلى التعليم والتحصيل فينحرفون بهم من موقع الحاجة إلى ما لا يريدونه هم في الكثير من الأحيان كما هو الملاحظ عملياً في كثيرٍ من هذه المجالات.
وأمّا وظيفة المؤسسات الخدماتية فهذه لها المجال الأوسع في العمل باعتبار أنّها يمكن أن تقدّم الكثير من الخدمات الإجتماعية للناس مثل تقديم المشورات والنصائح عبر استحداث الأجهزة المناسبة ومنها على سبيل المثال استحداث مكاتب عمل وظيفتها تأمين العمل للمحتاجين ومنها المؤسسات المالية القائمة على القانون الإسلامي لإقراض قسم من الناس الذين يملكون المؤهلات ولا يملكون ما يعينهم على استخدام تلك المؤهلات الفكرية والنظرية ومنها المؤسسات التي تعمل على إقامة المشاريع العمرانية وغيرها لاستيعاب أصحاب المهن والكفاءات وما شابه ذلك من هذه القضايا. وأمّا وظيفة المؤسسات الصحية فهي لتخفيف المآسي عن المحرومين في هذا المجال وهذه لها فروع كثيرة كالمستوصفات والمستشفيات والصيدليات والدفاع المدني ودور التوليد وما يقرب من هذا، وأمّا وظيفة المؤسسات المهنية فهي لاستيعاب الأشخاص الراغبين في تعلّم المهن والحرف المختلفة التي يحتاجها المجتمع ولا يتمكّن أولئك من متابعة تحصيلهم هذا، فحتّى لا ينحرف مثل هؤلاء إلى مجالاتٍ أخرى قد لا تفيد المجتمع كثيراً أو قد ينحرفون إلى العمل في أمورٍ تضرّ بالمصلحة العامّة فإنّ استيعابهم في مثل هذه الأمور يعتبر دعماً وتخفيفاً عن كاهل المجتمع ككل، مُضافاً إلى أنّ ذلك يرفد الأمّة بطاقاتٍ كان يمكن أن تضيع لولا هذا. ومن أهم النقاط الأخيرة في بحثنا هذا هي الإشراف والمراقبة على سير الأمور الإجتماعية في المجتمع لتحسين عمل المؤسسات كلّها سواء من تعمل لرفع حاجة الفرد أو المجتمع، لضمان سلامة الوصول إلى النتائج المرجوّة وحتّى لا تنحرف تلك المؤسسات عن الأهداف الأصلية التي أُنشئت من أجلها، وفي هذا المجال تدخل ما يمكن أن نسميه مسألة الرشد الإجتماعي الذي يمكن أن توجده عند الأمّة من خلال جعل أسس التغيير أمراً متعاملاً به بين الناس لتستطيع الأمّة أن تلبس لبوس الحالة التي تعيش من حيث الناحية المادية والإنسانية، والمراد من مرحلة الترشيد هذه أن تدلّ الأمّة عبر الوسائل المتاحة للطرق الأفضل التي ينبغي على الناس أن يمارسوها طبقاً للحالة المادية والإنسانية الطارئة على حياة المجتمع، وهذه تعتبر من أهم نقاط الوعي الإجتماعي التي يمكن أن تشكّل عاملاً أساسياً في تصحيح الأوضاع المُعاشة. وينبغي أن يترافق ذلك كلّه كما قلنا مع التركيز على قضية النواحي الأخلاقية والإنسانية لدخالتهما التي لا شكّ فيها إسلامياً على الأقل بخلق روح التضحية والإيثار عند الجميع لكي يتحوّل هذا المعنى النظري إلى تطبيقاتٍ عملية تمارسها كلّ الناس بصورةٍ طبيعية لا تصنّع ولا تكلّف فيها.
وفقنا الله وإياكم لما فيه خدمة الإسلام والمسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.