الأحد, 24 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

بين السلم والإستسلام

sample imgage

قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}. تدعو الآية الكريمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للجنوح والميل إلى تحقيق الصلح فيما لو طلب الأعداء ذلك لوقف حالة الحرب المترافقة وفق العرف التاريخي للحروب مع الخسائر الكبيرة والجسيمة في الأرواح والممتلكات والإمكانيات، وتشير الآية أيضاً إلى أنّ الإسلام دين ينبذ الحرب عندما لا يكون لها مبرّرٌ شرعي أو عقلائي، ويحبّذ السلم لما فيه من نعمة الأمن المؤدّي عادةً إلى الإستقرار والبناء والنمو.

 

إلاّ أنّ النقطة الجديرة بالبحث هنا هي: هل أنّ الآية تدعو المسلمين إلى وقف الحرب عندما يكونون في موقع العزة والنصر؟ أو تدعوهم إلى ذلك بنحوٍ مطلقٍ ولو كانوا في موقع الهزيمة والإنكسار؟

ولا شكّ أنّ وقف الحرب في الحالة الأولى إشارةٌ واضحة إلى أنّ الأمّة هي التي تملك زمام المبادرة، أو على الأقل هي في الموقع القادر على فرض الحلول التي تحفظ هيبة الأمّة وتصون حرماتها ومقدّساتها وتلقي الرعب في قلوب الأعداء، ومثل هذه الدعوة يحبّذها الإسلام عندما تصدر من العدو ويطلب من المسلمين التجاوب معها للوصول إلى حالة السلام المتوافقة مع طبيعة هذا الدين العظيم الذي يحثّ على الإستفادة من الطاقات لبناء الحياة الإنسانية بطريقةٍ تجعلها تعيش السعادة في الدارين معاً، لأنّ السلم يفتح أمام المسلم المجالات كلّها، وخصوصاً في مجال نشر الدعوة الإسلامية بين الأمم والشعوب الأخرى، وتقوية العقيدة وتركيزها عند أبناء الأمّة أيضاً.

والإستجابة لوقف الحرب في الحالة الثانية هي تعبيرٌ عن حالات الضعف والوهن والرضوخ لإرادة الأعداء، مع ما يترتّب على ذلك من فرض الشروط المُذلّة المقيّدة لحرية الأمّة واستقلاليّة قرارها، ثمّ التسلّط بعد ذلك عليها وتسخيرها لخدمة الأهداف المغايرة لمصالحها ومبادئها معاً، ثمّ جرّها بالتالي إلى ما هو خلاف المسير الأصلي لها والمُطابق لعقيدتها ومنهاجها.

بعد هذا العرض الموجز لكلّ من يسقي الدعوة لوقف الحرب يتبيّن أنّ الحالة الأولى-وقف الحرب مع العزّة والنّصر- هي التي يدعونا إليها الإسلام بل يشجعنا عليها لما فيها من الفوائد، وأنّ الحالة الثانية- وقف الحرب مع الهزيمة- هي المرفوضة لمنافاتها للكثير من المبادئ والمصالح على مستوى الأمّة.

والذي يؤكّد هذا الأمر، هو أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً قبل أن نفسّره بأيّ شيءٍ خارجٍ عن حدود سوره وآياته، وبالرجوع إليه نرى أنّ هناك أصلين يشكّلان بالمجموع دلالة الرد على كلّ من حاول أو يحاول أن يقرّب فكرة الصلح مع الأعداء من موقع الإستسلام للأعداء، وهذان الأصلان هما:

الأول: "العزة": {إنّما العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين}.

الثاني: "رد العدوان": {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.

وعليه فتكون الإستجابة بالمطلق على خلاف هذين الأصلين، لأنّ العزّة لن تكون محفوظة في حالة الرضوخ للأعداء وتحقيق شروطهم المذلّة، وردّ الإعتداء لن يكون متحقّقاً بسبب الهزيمة التي قد تكون أرخت بثقلها فأقعدت الأمّة عن رده أو عن مواجهته.

من هذه الأجواء كلّها تكون الدلالة هي الإستجابة للصلح من موقع القوّة لا العجز، وإذا حاولنا أن نطبّق ذلك على الواقع الذي تمرّ فيه الأمّة اليوم في مواجهة المستكبرين وعلى رأسهم أمريكا ومعها الكيان الغاصب للقدس، نجد المخالفة الصريحة والواضحة للدلالة القرآنية، حيث لا نرى إلاّ التخاذل والإستسلام والرضوخ لقوى الأعداء المتكالبة على هذه الأمّة والسّاعية لنهب ثرواتها ومصادرة قرارها وإرادتها، مع أنّ الأمّة ليست في موقع العجز الكلي عن المواجهة بسبب إمتلاكها القدرات الهائلة على المستوى البشري والمادي والتسليحي، إلاّ أنّ الأجهزة الحاكمة السّاقطة أمام الأعداء، والمتظاهرة بالقوّة أمام شعوبها، هي التي لا تريد طوعاً أن تتحمّل المسؤوليّة التاريخيّة في المقاومة ضد التسلّط والنفوذ الإستكباري الأمريكي والصهيوني.

لهذا نقول إنّ واجب المستنيرين والعالمين من أبناء هذه الأمّة والصادقين مع ربّهم وتكليفهم أن يعملوا على تصحيح المسيرة وقيادتها ليتمكنوا من تجنيد كلّ طاقاتها الكامنة والظاهرة لردّ العدوان الذي يريد أن يحاصر المستقبل ويصادر الحاضر، وبغير هذا التصحيح للفكر والإستنتاج والمسار لن يكون هناك تحرّر وإستقلال.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين