السبت, 23 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

مفهوم النصر عند الإمام "قده"

sample imgage

عندما يريد الإنسان أن ينتصر لعقيدةٍ ما أو قضيةٍ ما، فهل يسلك سبيلاً يوصله إلى الإنتصار في الشكل، والفشل في المضمون على مستوى القضية التي يحمل؟ وبعبارةٍ أخرى هل يسعى نحو الهدف عبر الإرتهان إلى قوّةٍ تمدّه بالوسائل والإمكانيات التي تحقّق له ذلك ليصبح رهين إرادتها وأهدافها من دون اعتبارٍ لقيمة القضية التي عمل لأجلها وللشعار الذي رفع؟ أو أنّه يستند إلى عوامل القوّة الذاتية ضمن سلوكٍ محدّد بعيدٍ عن الإرتهان من أجل الوصول إلى الهدف المنشود؟ والإستناد إلى العوامل الذاتية هل يقتصر على الموازين المادية البحتة، أم أنّها تمتدّ لتشمل العوامل الإيمانية الغيبية وتكون جزءاً مقوّماً وأساساً على طريق الإنتصار؟

ثمّ إنّ الأسباب التي يثور الإنسان من أجلها ضدّ الواقع القائم هل تنحصر بالقضايا الدنيوية البحتة كالإقتصادية أو الطبقية أو العسكرية التي تؤدّي غالباً إلى وقوع الظلم والإضطهاد والإستكبار؟ أو أنّ هناك أسباباً أعمق للثورة من هذه وأهم هي التي تدفع الإنسان ليكون ثائراً كالدين المرتبط بتفسير أصل النشأة الإنسانية وأهداف وجودها الدنيوية ونتائج هذا الوجود على مستوى الحياة الأخرى بعد الموت؟

 

أغلب الثورات التي حدثت في القرن العشرين وأكثر الحروب التي نشبت من أجل التحرير كانت تنطلق من الإستناد إلى القوى الخارجية من أجل الوصول إلى الإنتصار، هذا من جهة، وأكثرها انطلق من أسبابٍ دنيوية بحتة وفق العقائد والأفكار التي كان ينطلق منها أولئك الثائرون القاصدون لتحرير شعوبهم من نير الإستعمار، وهذا ما أدّى بهم إلى أن يتحرّروا من سلطة قوةٍ كبرى ليقعوا فريسةً بيد القوة الكبرى المواجهة لها على مستوى العالم، وهذه الطريقة هي الأكثر شيوعاً على مستوى العالم الثالث الذي كان يعيش حالةً من التقلّب ما بين أمريكا وروسيا، وهذا الأمر بالذات هو الذي منع وما زال يمنع من نشوء قوّة عالمية ثالثة تستطيع أن تنشر الأمن والسلام في ربوع العالم المستضعف، وتسمح لإنسان هذا العالم ببناء الحياة الحرّة الكريمة بعيداً عن الإرتهان وعن الإتّكاء على القوى الكبرى المستكبرة، ولعلّ أهم محاولة قام بها العالم الثالث هي فكرة إنشاء "عالم الحياد" بين الجبارين، التي سقطت بدورها بسبب ضعف التوجّه السليم وضعف الإرادة عند زعماء هذا العالم وضعف الإيمان بقدرة الإنسان على أن يعيش الحرية والإنعتاق في ذاته، وأصبح "عدم الإنحياز" فكرة من دون مضمون، وإطاراً من دون واقع يحكي عنه، وهذا ما أدّى إلى نشوء حالةٍ شديدة من الإحباط أوصلتنا إلى اليأس من جهة، والإرتماء في أحضان الشرق والغرب من جهةٍ أخرى.

من هذا الجو ندخل إلى عالم الإمام الخميني رضوان الله عليه، ذلك الإنسان العظيم الذي تمكّن بثورته الرائدة وبقيادته الحكيمة لها من إعادة الأمل إلى الشعوب المستضعفة، وأثبت لها أنّ النصر ممكنٌ بل واقعٌ إذا توافرت أسبابه الموضوعية وتوافرت العقيدة الصلبة والإرادة الحديدية التي تشكّل الأرضية الصالحة للبناء الثوري الموصل إلى الهدف، وإن استلزم كلّ ذلك الوقت والجهد والتضحية، لأنّ مصير الشعوب يستحقّ دفع مثل ذلك الثمن الزهيد في مقابل المنافع العظيمة في حال الوصول إلى النصر من أبوابه الصحيحة.

فالإمام "قده" لم ينظر إلى النصر بمعناه المادي وهو انتصاره على الحكم في إيران بأيّة طريقةٍ كانت، وإنّما نظر إليه بما هو نتيجة لمجموعةٍ من العوامل الموضوعية وفق نظرة الإسلام الإلهي المصدر والسلوك والهدف، الذي يعطي الأبعاد الغيبية والعوامل الإيمانية الذاتية دوراً وحيّزاً مهمّاً في تحقيق النصر على قاعدة أنّ الحق في واقعه منتصرٌ أبداً ولا يعقل أن يخسر، ويمكن للحق أن ينتصر في الواقع إن توافرت له الفئات المؤمنة به والعاملة في سبيله ضمن الشروط التي تجعل النصر حقيقياً في المضمون بالإضافة إلى الشكل الخارجي له، لأنّ الإمام "قده" ينظر إلى النصر الشكلي على أنّه طريقٌ ينبغي أن يوصل إلى إرساء المضامين التي من أجلها يثور الإنسان وهذا يستلزم أن لا يستند الإنسان في حركته الثائرة إلى القوى التي يمكن أن تعيده إلى ما كان عليه بسبب الإستعانة بها لتحقيق النصر، ولهذا رفع الإمام "قده" شعاره المعروف (لا شرقية ولا غربية) لأنّه كان لا يرى أيّ معنى لنصرٍ يتحقّق على نظامٍ تابعٍ لأمريكا عبر الإستناد إلى المساعدة المقدّمة من المعسكر الإشتراكي، لأنّ القضية بهذا الشكل ليست أكثر من تغيير عنوان المستكبر مع تعديلٍ في بعض التفاصيل التي لا تعطي للثورة سمتها الحقيقية وبعدها المطابق لفكرها الذاتي وقناعاتها الخاصة، هذا كلّه من حيث الوسيلة الموصلة أو التي ينبغي بها أن توصل إلى النصر.

وأمّا بلحاظ الأسباب الدافعة إلى الثورة، فالإمام "قده" لم يحصر أسباب ثورته بالظلم الإجتماعي المتعدّد الأشكال والمظاهر، وإنّما ربط قيام الثورة بالأسباب الأعمق المتّصلة بأصل الوجود الإنساني وقيمه المعنوية والروحية الكبيرة التي كان ينظر إلى أنّها هي الدافع والمحرّك للأقوى وأنّ الأسباب المادية هي مجرّد عوامل مساعدة تزيد من اندفاعة الثورة وحركة الثائرين لأنّها النتيجة الحتمية لأيّ نظامٍ لا يقوم على قاعدة الإيمان والعدل ولا تحكمه الضوابط والقوانين التي تحقّق الأمن والسلام لأفراد الشعوب.

لهذا كان الإمام "قده" يعتبر أنّ انتصار الثورة الإسلامية في إيران أنّه هبةٌ ومنحة من الله عزّ وجلّ وهي التطبيق العملي لقوله تعالى :{إن تنصروا الله ينصركم..} لأنّ ذلك الشعب قد تحمّل مسؤولية الرسالة والدفاع عنها وقدّم وضحّى وجاهد مستنداً إلى قوّته الذاتية وإيمانه القوي الراسخ بالله ووعده بالنصر، وتجاوز الأسباب المادية للثورة إلى الأسباب الأعمق والأدق والأكثر أهمية في الحياة، وفي هذا يقول الإمام "قده": (إنّ سرّ انتصارنا يكمن في أنّ ثورتنا لم تكن سياسية فقط، ولم تكن من أجل النفط فقط، بل كان لثورتنا ناحية إسلامية ومعنوية محض، فقد كان شبابنا كما كان المسلمون في صدر الإسلام يتمنّون الشهادة ويستقبلونها، لقد كان شبابنا يعتبرون الشهادة سعادة، سرّ الإنتصار كان في الإعتماد على القرآن والشهادة التي هي طريقٌ مقدّس، ولذلك فقد انتصر شبابنا في الوقت الذي كانوا يواجهون الدبابات بأيدٍ خالية، لقد انتصرت القبضة على الرشاش وعلى الإستكبار، فيجب عليكم أن تحفظوا هذا الإنتصار، وما دام شعبنا مع الله فهو منتصر، وما دامت أمتنا مع القرآن فهي منتصرة، وما دامت راية الإسلام خفّاقة فوق رأس أمّتنا فهي منتصرة).

ويقول الإمام "قده" في نصٍّ آخر حول سرّ النصر وبقائه :(لا شكّ أنّ سرّ بقاء الثورة الإسلامية هو نفسه سرّ النصر، والشعب يعرف ذلك، وسوف تقرأ الأجيال الآتية أنّ ركنيه الأساسيين هما "الدافع الإلهي" و"الهدف السامي للحكومة الإسلامية" واجتماع الشعب في جميع أنحاء البلاد مع وحدة الكلمة هو من أجل ذلك الدافع وذلك الهدف... وإذا أردتم أن يستقرّ الإسلام والحكومة الإلهية وأن تُقطع أيدي المستعمرين والمستغلّين الداخليين والخارجيين عن بلدكم فلا تضيّعوا هذا الدافع الإلهي الذي أوصى به القرآن الكريم).

هذا هو باختصار رأي الإمام الخميني "قده" في كيفية العمل من أجل الوصول إلى النصر الذي يمكنه أن يستمرّ ويدوم ويؤسّس لحياةٍ حرّة كريمة لا يكون فيها الإنسان عبداً للقوى الإستكبارية في العالم.

إنّ الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني "قده" وفق رؤيته للمقدّمات الصحيحة الموصلة إلى النصر والحرية والكرامة تشتمل على ناحيتين مهمّتين تجعل من الإقتداء بهذا الأسلوب طريقاً لتحرير الشعوب المظلومة والمقهورة من سلطة الإستكبار، فهي دولة تؤمن بالإسلام، ويشاركها في هذا الدين دول عديدة في العالم الثالث يمكن لشعوبها أن تأخذ من مفهوم الإمام "قده" للنصر أساساً لحركتها الثورية الجماهيرية، وهي من جهةٍ أخرى دولة معتبرة من العالم الثالث وهي بهذا تشكّل دافعاً للشعوب غير الإسلامية من هذا العالم لكي تنطلق من إرادتها القوية الصلبة للتحرّر من الإستكبار وتندفع في حركةٍ مضادّة لمصالح ذلك العالم على حساب إفقار تلك الشعوب عبر سلبها لكلّ ثرواتها وإمكاناتها.

ولهذا كان الإمام "قده" يؤكّد دوماً على دراسة تجربة الثورة الإسلامية من جانب المفكّرين والباحثين ونقل كلّ ذلك إلى الشعوب المقهورة، لأنّ ذلك الإنتصار شكّل خرقاً واضحاً للمفاهيم الثورية السائدة في العالم المعاصر واستطاعت أن تنفرد في أسلوبها وأسباب قيامها عن كلّ الثورات التي عرفناها في هذا العصر، وقد تمكنت الثورة بفعل إرادة قيادتها الجبّارة وحكمتها من أن تنسج لنفسها مساراً أعطاها القوّة والمناعة في مواجهة كلّ المؤامرات التي دبّرها الإستكبار لإسقاطها حتّى لا تكون بمفاهيمها الجديدة سبباً دافعاً لكلّ الشعوب المقهورة والمسحوقة من التأثّر بها والإقتداء بنهجها.

ومن هذا كلّه يمكن القول إنّ الإمام "قده" قد استطاع أن يعيد الأمل وأن يجعل الشعوب تعيش الحلم باليوم الذي تتحرّر فيه، وأن يؤسّس لمسارٍ جديدٍ في العالم أثبت قدرته وجدارته في قيادة الشعوب نحو ما يحقّق لها الحرية الحقيقية والحياة الكريمة.

والمقاومة الإسلامية في لبنان كانت وما زالت نتاجاً لمفهوم النصر عند الإمام، وستبقى هذه المقاومة ضمن هذا التوجّه ولن تحيد عنه خاصة بعد أن تمكنت من أن تحقّق إنجازاتٍ كبيرة جداً على مستوى الصراع مع العدو الغاصب المدنّس للأرض والمشرّد للإنسان، كما أنتج هذا المفهوم الريادي الذي أخرجه الإمام "قده" من مجرّد فكرةٍ في النصوص إلى واقعٍ يعمل من خلاله كلّ الثائرين "الإنتفاضة الجماهيرية في الأرض المحتلّة" التي لم تستطع القوّة الصهيونية الغاشمة بكلّ أساليب القهر والبطش أن توقفها أو أن تقلّل من اندفاعتها الثورية واستطاعت أن تربك حركة العدو إلى حدودٍ معقولة جداً ضمن حالة الصراع القائم مع هذا الكيان المصطنع المزروع في عالمنا العربي والإسلامي الكبير.

إنّ هذا المفهوم للنصر القائم على أساس الإعتماد على الإيمان بالله والأهداف العليا للحياة الإنسانية والقدرات الذاتية هو الموصل إلى النصر الحقيقي غير القابل للتزلزل أو السقوط في حال المواجهة مع قوى الكفر والإستكبار العالميين.

-والحمد لله ربّ العالمين –