السبت, 23 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الثورة المتجدّدة

sample imgage

كثيرةٌ هي الثورات التي مرّت عبر التاريخ الطويل للإنسانية ولم يبق منها إلاّ الذكرى المحفوظة في بطون الكتب أو القصص التي تحكى ولا تملك شيئاً من عناصر التأثير والبقاء والإستمرار لأزيد من الوقت أو الظرف الذي حدثت فيه، بينما كربلاء الحسين (عليه السلام) ما تزال حية وفاعلة ومؤثرة في المسار العام للمسلمين كأمّة، وتلعب دوراً تثويرياً وتنويرياً وتغييرياً، وليس حفظ التفاصيل حتّى الصغيرة منها إلاّ دليلاً واضحاً على قوّة وشدّة هذا التأثير، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتعدّاه لتمتزج تلك الثورة مع الشعور والإحساس الذي يدفع بالإنسان إلى البكاء وذرف الدموع تأثّراً بالصور المفجعة والمشاهد التصويرية المأساوية التي يصوّرها قرّاء العزاء أثناء سردهم لمجريات تلك الثورة الرائدة.

ثورةٌ حدثت منذ ما يزيد عن ألف وثلاثماية وخمسين عاماً ومع هذا لم تَغِبْ يوماً عن حياة المسلمين، فها هو الحسين (عليه السلام) مذكورٌ على كلّ شفةٍ ولسان على أنّه المجاهد الذي ضحّى بكلّ ما يملك حتّى قدّم أرواح أبنائه وفلذات أكباده قرابين في سبيل دين الله ورسالته، وأجابه أصحابه المخلصون الذين لم يرتضوا لأنفسهم العيش بعده، ولبّوا نداء الواجب الإلهي فجاهدوا حتّى قضوا شهداء على خطى سيّدهم وإمامهم الذي كانوا يطمئنّون إلى أنّه لن يتركهم شهداء من دون أن يكون معهم شهيداً مسفوك الدم في سبيل إعلاء كلمة الله عزّ وجلّ.

 

إلاّ أنّ كلّ هذا الجو المليء بالفجائع والمآسي ليس هو السبب في خلود عاشوراء الحسين (عليه السلام)، لأنّ السبب الأساس هو عظمة الشعارات المرفوعة كأهدافٍ ونتائج كان الإمام (عليه السلام) يصبو إلى تحقيقها بثورته وقيامه، وعلى رأس تلك الشعارات "شعار الإصلاح" حيث قال (عليه السلام): (... وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))، من خلال قيامه بتطبيق والتزام واجب إلهي مقدّس وهو (... أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر)، ولم يكن قلّة الناصر أو المعين ليمنعه عن القيام بذلك التكليف، ولذا يقول(عليه السلام): (... فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليّ أصبر حتّى يحكم الله لي...).

فالإصلاح في مسيرة الأمّة الإسلامية كان الهدف الأبرز، والإصلاح الذي كان ينشده الإمام (عليه السلام) هو لأمورٍ عديدة تغيّرت في حياة الأمّة وانحرف المسار فيها عن الصراط المستقيم، ويمكن ذكر بعض منها مثل:

أولاً- الإصلاح على مستوى قيادة الأمّة: حيث أنّ قائد الأمّة الإسلامية لا بدّ من توافر الشروط الشرعية التي تؤهّله لحكم المسلمين، بينما نجد أنّ يزيد الفاسق الفاجر يصبح خليفة يحكم باسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأمّة ساكتة عن ذلك ولا تتحرّك أو تنتفض على هذا الإختيار المخالف لأبسط الموازين الشرعية، ولذا يقول الإمام (عليه السلام): (... ويزيد رجلٌ فاسقٌ فاجر شاربٌ للخمر قاتلٌ للنفس المحترمة، ومثلي لا يُبايع مثله).

ثانياً- الإصلاح على مستوى تطبيق الشريعة: حيث أنّ أحكام الدين الإسلامي لم تعد مراعاةً من حيث التطبيق في حياة الناس، بل صارت تلك الأحكام وسيلةً من وسائل تبرير تصرّفات الحكّام المنحرفين الذين لا يستطيعون التعايش مع التطبيق الحرفي لقوانين الإسلام وأحكامه، وبما أنّ قائد مسيرة المسلمين لا يلتزم شخصياً بذلك، فلن يكون عاملاً مساعداً على الإلتزام بالإسلام قولاً وعملاً، لأنّ ما يناسبه هو الفوضى والتحلّل والتجاوز والإنحراف عن الأحكام الضابطة للتصرّفات، وفي هذا يقول الإمام الحسين (عليه السلام): (... فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله والسلام)، وكذلك قوله (عليه السلام): (ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله...).

ثالثاً- الإصلاح على مستوى مسيرة الأمّة: باعتبار أنّ الفساد عندما يبدأ بالتسرّب إلى حياة الأمّة ولا يجد من يحاربه سوف ينتشر ويعمّ ليجرف معه الكثير من ضعفاء النفوس الذين لا يملكون القوّة في الإيمان والإلتزام ممّا يؤدّي إلى وجود تيارٍ من المنحرفين ضد الذين صمدوا في مواجهة أجواء الفساد ويطمحون إلى تغيير الواقع ليطابق الإسلام قولاً وممارسة.

ولأجل هذه الأهداف التي تعمّدت بدماء الإمام الحسين (عليه السلام) ودماء أهل بيته وأصحابه، صار الحسين (عليه السلام) مناراً وعلماً وراية هدى لكلّ ثائرٍ مخلصٍ في سبيل دين الله ورسالته، وصار رفيق المجاهدين بل شعارهم الذين يحملون ويقاتلون تحت لوائه ورايته من أجل تحقيق الأهداف التي سعى إليها وجاهد واستشهد دفاعاً عنها.

من هنا نحن نعتبر أنّ شعارات الحسين (عليه السلام) التي حملها المجاهدون منذ كربلاء وحتّى اليوم هي التي كانت من أسباب بقائها حيّة حتّى تزرع القوّة والثبات، وتشجّع على التضحية والبذل، وتغرس في النفوس حبّ الإيثار للآخرة على الدنيا عبر سلوك طريق الجهاد والفداء.

ومن أبلغ البصائر التي تشير إلى خلود كربلاء وقوّة حضورها وشدّة تأثيرها في تاريخ الأمّة قديماً وحديثاً ما قاله الإمام الخميني المقدّس :(إنّ كلّ ما لدينا هو من عاشوراء) فلولا ثورة الحسين (عليه السلام) لم تقم الثورة الإسلامية في إيران ولم تنتصر، ولولا ثورة الحسين (عليه السلام) لما كانت المقاومة الإسلامية في لبنان التي تزرع اليوم كلّ عناصر الإستنهاض والثورة على الظلم والظالمين وعلى الإستكبار والمستكبرين، ولما كانت الإنتفاضة المباركة للشعب المسلم في فلسطين.

إنّ هذه كلّها رشحاتٌ من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) تدلّ بشكلٍ جلي على أنّ كربلاء هي الثورة المتجدّدة مع كلّ ثائرٍ ومع كلّ مجاهدٍ ومع كلّ منتفضٍ في مواجهة واقعٍ فاسدٍ وحاكمٍ ظالمٍ ومسيرةٍ منحرفة، لأنّه لولاها لما قامت بعدها كلّ تلك الثورات، ولكان الخضوع والإستسلام والإستسهال للأمور هو السبيل الذي تتبعه الناس وقياداتها على امتداد عالمنا الإسلامي منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا مع ما كان سينتج عن كلّ ذلك من اندثارٍ لهذا الدين وضياعٍ لأحكامه وإفسادٍ وانحرافٍ لأتباعه ومعتنقيه.

والحمد لله ربّ العالمين

الشيخ محمد توفيق المقداد

الأوزاعي 25/ذي الحجة/1416هـ/

الموافق 12/أيار/1996م