الجمعة, 22 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

القدس في القرآن

sample imgage

{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنّه هو السميع البصير}، (الإسراء / 1) .

هذه الآية المباركة العابقة بالأجواء الإيمانية والروحية التي تنساب إلى نفس المؤمن من خلال حديثها عن قضية الإسراء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، مهد الأنبياء ( عليهم السلام) وموطن الرسالات السماوية، لتركز في وعينا وإدراكنا الديني والعقائدي وطبعاً العملي مدى أهمية القدس الشريف في مسيرة الرسالات الإلهية على امتداد فترات التاريخ الحافلة ببعث الرسل لهداية البشرية وإنقاذها من الضلال والإنحراف، ولهذا صارت القدس قبلةً لكلّ أتباع الديانات السماوية يؤمّونها من سائر بقاع الأرض نظراً لما تحويه من الأماكن القدسية المشتركة بين كلّ الأديان المعترف بأنّها من عند الله سبحانه، كما أنّها في

الوقت ذاته صارت هدفاً لهم، بحيث يريد كلّ واحدٍ منهم ادّعاء أحقّية بسط سلطانه ونفوذه عليها، فاليهود يدّعون ملكيّتهم للقدس لأنّها تشكّل عندهم الرمز الأكبر للديانة اليهودية باعتبار أنّها تضمّ في اعتقادهم هيكل النبي سليمان (عليه السلام) وحائط المبكى ولأنّها كانت عاصمة دولتهم وإلى الأبد كما يدّعون، والمسيحيون يدّعونها لأنفسهم أيضاً من خلال الكنائس الموجودة فيها والتي ترمز إلى قيامة المسيح (عليه السلام) ولهذا السبب قال الجنرال اللنبي قائد الجنود الحلفاء عندما دخل القدس: " الآن انتهت الحروب الصليبية".

 

والمسلمون أيضاً ليسوا بخارجين عن الإطار، باعتبار أنّ القدس هي مسرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعراجه إلى السموات العلى، وهي عنوان وحدة الرسالات السماوية التي تمثل الرسالة الإسلامية منها خاتمتها وأكملها المتضمّنة في ذاتها كلّ ما سبقها من الشرائع، ومن هذا الإعتبار يكون حقّ المسلمين في القدس أولى من حقّ الآخرين، بل مقدّم عليهم، لأنّ المسلمين هم المؤتمنون بالنص الإلهي على كلّ المقدّسات الإلهية التي تمثلها الرسالات والأنبياء ( عليهم السلام) لأنّهم الوحيدون الذين لم يحرّفوا شريعة الله ولم يتخلّوا عنها، بينما الآخرون شوّهوا عقائدهم وشرائعهم حتى صارت مسخاً لا يحمل من الرسالة السماوية إلاّ الإسم فقط وباعوها بثمنٍ بخس دراهم معدودات، ومزجوها بالكثير من المظاهر الوثنية وعبادة الأصنام التي نترفّع نحن المسلمين عن نسبتها إلى الخالق العظيم تبارك وتعالى، وهذا كلّه يجعل من هؤلاء غير مؤهلين ليكونوا محل الإئتمان على المقدّسات التي ينبغي أن تبقى مظهراً من مظاهر العبادة للخالق ومنزّهة عن كلّ دنسٍ ورجس.

فالقدس بما تمثله إذن هي عنوان الصراع الدائر حالياً بين المسلمين كأصحاب حق مغتصب، وبين الحركة الصهيونية العالمية ودولتها إسرائيل الغاصبة لحقّ المسلمين وحقّ الشعب الفلسطيني المحروم من أرضه والمشتّت في بقاع العالم على أساس من ذلك الإدعاء التاريخي المزيّف والمصطنع.

من هنا تمثل القدس برمزيّتها القضية المركزية التي يمكن انطلاقاً من رفع شعار تحريرها أن تعمل الأمّة الإسلامية بأسرها على توحيد جهودها وتثميرها من أجل دفعها في سبيل الجهاد لتحرير مقدّسات المسلمين من دنس الصهيونية المجرمة التي تسعى جاهدة لطمس كلّ معالم المقدّسات الإسلامية التي لها قيمتها المعنوية في قلوب المسلمين جميعاً، ومضافاً إلى البعد الديني والعقائدي في الصراع حول قضية القدس الشريف، فإنّ المعركة لها أبعاد أخرى على المستويات السياسية والعسكرية والإقتصادية، لأنّ إسرائيل من خلال ذلك الإدّعاء التاريخي استطاعت أن تحصل على ثقة القوى الإستكبارية في العالم وعلى رأسها أمريكا الشيطان الأكبر، لتصبح هذه الغدّة السرطانية وجرثومة الفساد الذراع الطويلة وشرطي المنطقة بكاملها لخدمة مخطّطات الإستعمار في الهيمنة على مقدّرات وخيرات الشعوب الإسلامية، وتمكّنت بالتالي من أن تقوم بهذا الدور بشكلٍ فعّال وقوى مكّنها من خلال حروب متعدّدة مع جيرانها من توسيع رقعتها الجغرافية لتصبح أضعاف ما كانت عليه ممّا جعلها قادرة أكثر من ذي قبل على أن تلعب دورها المرسوم لها بقوّةٍ أكبر وفاعليةٍ أشد.

ولعلّنا لا نحيد عن الحقيقة إذا قلنا أنّ السبب في صيرورة إسرائيل الكيان الغاصب لا يُستهان بها في المنطقة هو أنّ صراع المحيط الإسلامي معها لم يكن منطلقاً من الخلفية العقائدية والدينية الإسلامية بل كان ينطلق من الخلفية الوطنية والقومية فقط وتحت شعارات تقدّمية تارةً وتحريرية تارةً أخرى، ممّا أدّى إلى أن تنحصر حركة الصراع معها على مستوى الشعب الفلسطيني المسلم فقط ، ومن دون أن يتحمّل كلّ المسلمين هموم وأعباء المعركة بالشكل الصحيح، ممّا جعل إسرائيل تعيش حالةً من الإطمئنان والشعور بالقوّة لأنّ الذين يواجهونها لا يستطيعون الإنتصار عليها، ويُضاف إلى هذا أيضاً أنّ الكثير من الأنظمة الحاكمة في بلادنا وهذا ممّا لعب دوراً سلبياً في حركة الصراع، إذ أنّ هذه الأنظمة عملت على خداع الشعوب الإسلامية وإيهامها بأنّ إسرائيل حالة ثابتة لا يمكن إزالتها من الوجود لكونها تتمتّع بتأييد القوى الكبرى في العالم التي لن تسمح لأعدائها أن ينتصروا عليها، بل لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا أنّ خسارة الحروب التي دارت مع إسرائيل كانت خسارة للأنظمة لا للشعوب، لكن الأنظمة العميلة وحتى تغطّي عمالتها وانهزامها أمام إسرائيل عملت على الإيحاء لشعوبها بأنّها هي التي انهزمت، حتّى يصبح الشعور بالقوّة المطلقة لإسرائيل شعوراً سلبياً عند كافّة الشعوب العربية والإسلامية يمنعها من أن تستطيع أخذ المبادرة لإعادة الحقّ السليب إلى أصحابه الشرعيين.

وهذا كلّه جعل ساحة الصراع مفتوحة أمام إسرائيل لتمارس غطرستها وهيمنتها وشرّها ضدّ كلّ من يحاول أو يعمل على أن يبيّن الحقيقة ويوضح الملابسات ليزيل من طريق شعوبنا الإسلامية الأوهام التي ركّزتها القوى الإستعمارية والأنظمة العميلة لها في بلداننا في وجدان المسلمين وشعورهم أحبطت بالتالي كلّ تحرّكٍ كان يهدف إلى توضيح أطر المعركة من خلال أبعادها الصحيحة. وجاء انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران التي انطلقت من الإسلام كفكرٍ وعقيدة وبقيادة دينية واضحة وصريحة، واستطاعت أن تثبت وجودها المبارك بقوّة بأن تصبح طرفاً فالجمهورية تعلن عن اليوم العالمي للقدس الذي يصادف آخر يوم جمعة من كلّ شهر رمضان لإعادة تصحيح نظرة المسلمين إلى حقيقة المعركة التي يخوضونها ضدّ ذلك الكيان الفاسد الذي يعتبر أنّ عمقه الإستراتيجي الذي ينبغي أن يحذّر منه ويضعه تحت دائرة المراقبة هو أبعد نقطة يتواجد فيها المسلمون لأنّه يرى الخطر الأكبر الذي عليه أن يخافه ويخشاه باستمرار.

وهكذا نرى أنّ إمام الأمّة الخميني "قده" عبّر عن ذلك بشكلٍ واضح عندما قال :" إنّ يوم القدس ليس يوماً للقدس ولا لفلسطين فقط ، إنّه للمسلمين جميعاً " وأمام هذه الدعوة المباركة من أجل توحيد جهود الأمّة الإسلامية كلّها لإزالة إسرائيل من الوجود، نرى أنّ الأنظمة العميلة تصدّت لذلك وحاولت أن تمنع تلك الدعوة من التأثير في الجماهير المسلمة في أكثر البلدان المحيطة بإسرائيل وعملوا على محاصرتها سياسياً وإعلامياً ممّا فضح تلك الأنظمة أكثر فأكثر وعرّاها أمام شعوبها بما لا يقبل الشكّ أو الترديد، وأثبتت تلك الدعوة أنّ الذين كانوا يرفعون شعار القدس هم المنافقون والمخادعون من أبناء هذه الأمّة الذين يشكّلون اليوم وعبر أجهزة القمع والتنكيل التي يستعملونها أكبر دعامة وسند لإسرائيل من خلال منعهم لحركة الجهاد والمقاومة ضدّها من بلدانهم، ومن خلال السعي الحثيث الذي يقوم به اليوم ملوك ورؤساء هذه الأنظمة لإقامة الصلح الدائم مع إسرائيل لقطع الطريق على كلّ المحاولات التي يبذلها المخلصون من أبناء هذه الأمّة الذين يرفعون شعار تحرير القدس حقيقيةً وواقعاً.

إلاّ أنّ كلّ ذلك سوف لن يكون مانعاً للمجاهدين الحقيقيين من حمل راية القدس وشرف الجهاد من أجل استردادها من أيدي الغاصبين كما استرجعها المسلمون سابقاً أثناء الحروب الصليبية وهذا ما يؤكّده أيضاً كتاب الله عبر الآيات التي تتحدّث عن عباد الله الأشدّاء الذين يتمكّنون من دخول المسجد الأقصى ليطهّروه من دنس ورجس شذّاذ الآفاق الذين اجتمعوا من كافّة بقاع الأرض ليقيموا دولتهم، دولة الفساد والعدوان، وذلك من خلال قوله تعالى :{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علواً كبيراً، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس ٍ شديدٍ فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا ً، ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ٍ وليتبّروا ما علوا تتبيراً} ،(الإسراء / 4 ـ 7) .

ولهذا عندما نرجع إلى تصريحات قادة العدو، نرى أنّهم يركّزون بشكلٍ أساسي على خوفهم من أن تتحوّل معركتهم معنا إلى أصالتها التي ينبغي أن تنطلق منها وهي الخلفية العقائدية الإسلامية، لأنّهم يدركون تماماً أنّه عندئذٍ لن يبقى لدولتهم من وجودٍ في هذا العالم وهذا ما تؤكّده مصادرنا الشرعية أيضاً من أنّ المسلمين سوف يتمكنون من تحرير المسجد الأقصى ويزيلوا دولة البغي والعدوان، ولهذا نرى أنّ "موشى دايان وزير العدو السابق المقبور" قال كلمة ينبغي أن نأخذها بعين الإعتبار بعيد انتصار الثورة الإسلامية وهي :

" إنّ إسرائيل بدأت بالدخول في عالم الظلمات "،وهذا يؤكّد أنّ عدونا هو الذي يعيش النفسية الإنهزامية أمامنا، ولذلك فهو يحاول سدّ هذه الثغرة الكبرى بإيهامنا بأنّه الأقوى في هذه المنطقة وبأنّنا لسنا قادرين على أن ننتصر عليه، لينسج حول نفسه هالة من الكبرياء الكاذب التي تلقي الرعب والهلع في قلوب محيطه العربي والإسلامي إلاّ أنّ هذه الهالة قد بدأت تتحطّم على يد المجاهدين الواعين والمخلصين وها هي الإنتفاضة الإسلامية لشعبنا في الأرض المحتلّة ما زالت مستمرّة وبقوّة ودخلت شهرها الخامس ويسقط يومياً الشهداء والجرحى فداء للقدس الشريف، تلك الإنتفاضة التي هزّت العالم بأسره واستطاعت أن تعيد لقضية فلسطين الإسلامية اعتبارها عند الأمّة كلّها، بعدما سعى المنافقون والعملاء الخونة لجعلها قضية ثانوية من قضايا المسلمين في العالم.

إنّ تلك الدماء الطاهرة التي تسيل من أجساد المجاهدين الذين قاموا بثورة الحجارة في وجه الآلة الصهيونية التي تملك القوة العسكرية الكبيرة أثبتت أنّ الإنطلاق من الإسلام في الجهاد هو الذي يمكن أن يقاوم ويثبت وينتصر مهما كان العدو قوياً ومسيطراً ومالكاً للقدرات والإمكانات المادية.

ولهذا فإنّ الدعوة موجّهة اليوم إلى كلّ الذين يقاتلون دفاعاً عن شرف القدس الذي هو شرف الأمّة الإسلامية جمعاء أن يعرفوا أنّ الطريق لخلاص القدس واسترجاع الأرض المغتصبة لا يمكن أن يكون عبر المفاوضات ولا عبر المؤتمرات الدولية، ولا عبر أيّ طريقٍ من هذه الطرق التي ينافقون بها على الأمّة ليقنعوها بترك الجهاد جانباً، لقد آن لنا كمسلمين أن نعي أنّ السبيل الأوحد هو الجهاد والقتال باسم الإسلام وحده الذي يشكّل اليوم العمق والركيزة التي يستند إليها أهلنا المنتفضون في الأرض المحتلّة، والتي ينطلق منها الأخوة المجاهدون في المقاومة الإسلامية البطلة في الجنوب اللبناني والبقاع الغربي والتي استطاعت أن تسجّل بفخرٍ واعتزازٍ أنّها المقاومة الوحيدة التي استطاعت أن تجبر الكيان الغاصب على الإنسحاب ذليلاً خائباً من جزءٍ من أراضي المسلمين التي اغتصبها عندما كنّا نقاتل تحت راية الشعارات غير الإسلامية من أيّ نوعٍ كانت وإلى أيّ فكرةٍ عقائدية انتمت، وهذا كلّه يدعم ويؤكّد صحّة المقولة القرآنية التي تصرّح بأنّ القدس لن تتحرّر إلاّ على أيدي المؤمنين بالله وحده والمنطلقين من الإسلام وحده، وهذا المعنى هو الذي ينبغي أن يسعى كلّ العاملين الواعين على تركيزه في وجدان الأمّة كلّها لتنصبّ كلّ الجهود والإمكانيات الكبيرة التي يمتلكها المسلمون من أجل ذلك الهدف العظيم واكتشاف شرف تحرير القدس تحت الراية التي تجتمع كلّ الأمّة حولها والنصر حينئذٍ أكيد وحتمي لأنّ الله قد وعد عباده بأنّهم إن قاتلوا في سبيل رسالته ومقدّساته فلسوف ينصرهم وما النصر إلاّ من عند الله العلي العظيم.

" والحمد لله ربّ العالمين"