العلاقات التاريخية بين إيران ولبنان
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3354
وتكاد المصادر التاريخية التي بأيدينا مجتمعة على أنّ هذه العلاقة بدأت بشكلٍ منظّم مع بدايات حكم الصفويين في إيران الذين يعودون بنسبهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلنوا عن أنّ الدين الرسمي لدولتهم هو "مذهب أهل البيت (عليهم السلام)"، فكان هذا الإعلان إيذاناً ببدء العلاقة التي كان أول الغيث فيها تقاطر كبار العلماء من لبنان من أجل ترسيخ توجّه الدولة في هذا المجال، حتى ورد في الكتب التي تتحدث عن هذا الأمر أنّ ثلاثين عالماً من بلدة "كرك نوح" وحدها هاجروا إلى إيران وقاموا بأداء مهمّات التبليغ وتسلّم مناصب القضاء والإفتاء هناك، بل إنّ بعض العلماء قد تسلّموا المناصب الرفيعة جداً وكان تحت أيديهم من الإمكانات الشيء الكثير جداً الذي أعانهم على أداء المهام الموكلين بها.
ومن الشخصيات اللبنانية التي تولّت المناصب الرفيعة نذكر (المحقّق الكركي) صاحب أحد أهم كتبنا الفقهية "جامع المقاصد" و (الشيخ البهائي) صاحب المؤلفات الكثيرة ومن كتابه القيم "الكشكول" الذي كتب فيه باللغتين العربية والفارسية بل إنّه ألّف كتباً باللغة الفارسية وحدها، وكذلك نذكر (الشيخ الحر العاملي) صاحب الموسوعة الفقهية الغنية عن التعريف وهي "وسائل الشيعة" وغيرهم كثيرون ممّن تولّوا مشيخة الإسلام في حواضر إيران آنذاك مثل (أصفهان) و (مشهد خراسان) و (طهران).
ولا شكّ أنّ وحدة المذهب ما بين إيران وقسم كبير من الشعب اللبناني قد لعبت دوراً كبيراً في تنامي هذه العلاقة بشكلٍ متواصل ومستمر منذ ذلك الوقت، خاصة بعد أن وجد هذا القسم من اللبنانيين دولة تدين بمعتقده الخاص، ويمكن أن تشكل له مرجعية سياسية كبيرة يلجأ إليها ويحتمي بها عند الشدائد والضرورات والإبتلاءات كما حدث في بعض الفترات العصيبة.
إنّ وحدة التوجّه المذهبي كانت من العوامل الإضافية التي كان لها دورها المميز في تقوية العلاقات من مختلف أوجهها السياسية والإجتماعية والإقتصادية، كون حركة الإنتقال ما بين البلدين لم تكن تشعر المنتقلين بينهما بالغربة حيث يذهبون نتيجة هذا التقارب والتوحّد المذهبي.
وممّا لا ريب فيه أنّ فترة الحكم الصفوي كانت العصر الذهبي لهذا التواصل في العلاقة الذي استمرّ إلى اليوم، وغدت فيه العلاقات بين إيران ولبنان متقدمة إلى حدود الإشتراك في المصير مع وحدة المنطلقات والأهداف.
ولا شكّ أنّ النتيجة المباشرة للعلاقات التي تأسّست وتجذّرت مع مرور الأجيال كانت تثبيت أركان المذهب الإمامي "مذهب أهل البيت (عليهم السلام)"، واعتبار إيران مرجعية أتباع هذا المذهب في لبنان، بل وصل الأمر نتيجة قوّة هذه الروابط أن اعتبر البعض أنّ الشيعة في لبنان هم عملاء لنظام الشاه بل وصل الأمر ببعض المجانبين للموضوعية والواقع أن تغافل عن الجذور النسبية لهذا القسم الكبير من الشعب اللبناني وأراد إعطاءه النسب الفارسي كما فعل الأب "لامنس" ثمّ تراجع عن هذه الفكرة وتردّد فيها ذاكراً الأسباب لذلك.
وعلى كلّ حال، فممّا لا شكّ فيه أنّ العلاقات بين إيران ولبنان لم تنقطع منذ تلك الفترة، وإن كانت أبرز مظاهر هذه العلاقة هي العلاقات ذات الطابع الديني والتبليغي التي كانت العلامة المميزة عبر كلّ تلك العصور.
بل يمكن القول إنّ من أهم مظاهر تلك العلاقة التي ما زالت قائمة حركة الزوار المتواصلة إلى المقامات المقدّسة وبالأخص مقام الإمام الرضا (عليه السلام) ثامن الأئمة الذي تهفو إليه قلوب القسم الأكبر من الشعب اللبناني وفق التصنيف المذهبي اليوم.
من هنا نرى أنّ تلك العلاقات التاريخية الوطيدة قد أثمرت في هذا الظرف الذي نعيش النهضة الإسلامية العزيزة في لبنان التي يمكننا أن نعتبرها بلا شكٍّ أو ترديد أثراً من آثار تلك الروابط التاريخية، وقد شعرنا نحن ـ اللبنانيين ـ يوم انتصرت الثورة الإسلامية في إيران أنّنا نحن الذين انتصرنا وقويت إرادتنا وعزائمنا، ومن ذاك اليوم تبدّلت الأمور عندنا وبدأت الحالة الإسلامية بالنمو والإزدياد مع ما رافقها ذلك من تحوّلات كبيرة على مستوى العادات والتقاليد والأعراف، حتى أنّ البعض ما زال يعتبر نتيجة كلّ هذا الجو أنّ الحالة الإسلامية في لبنان لا تعمل لصالح لبنان بمقدار ما تسعى لتحقيق أهداف إيران الإسلام في أرضنا كما تروّج لذلك دوائر الإستكبار.
ولا شكّ أنّ هذه العلاقة الوطيدة بيننا وبين إيران هي موضع فخرٍ واعتزاز عندنا وليست مدعاة للإنتقاص أو للإختباء بها، مُضافاً إلى أنّ عمق تلك الروابط هي التي دفعت بإيران الإسلام لأن ترى نفسها مسؤولة مباشرة عن هذا القسم الكبير من الشعب اللبناني فهبّت لنجدته بكلّ أنواع المساعدات حتى لا يسقط تحت وطأة الضغوطات العسكرية والإقتصادية التي مورست ضدّه ولم يقف إلى جانبه أحد سواء من الداخل أو الخارج وتُرك ليواجه مصيره وحده.
من هنا نرى أنّ حركة التأثير قد حصلت في لبنان بفعل الكثير من الجهود التي بذلها وما يزال المبلّغون الإيرانيون في مختلف القرى والبلدان الشيعية في المناطق، وكأنّهم يمارسون بذلك نفس الدور الذي قام به العلماء والمبلغون اللبنانيون في العصور السابقة على مستوى الساحة الإيرانية.
ولم يقتصر الأمر على هذا النوع من التأثير، بل نرى أنّ عمق تلك الروابط قد أثّر في الأجيال الحاضرة لهذا القسم الكبير من اللبنانيين على مستوى الروحية الجهادية التي كانت شبه معدومة عندما اجتاحت جحافل الكيان الغاصب أرضنا فقتلت ودمّرت واحتلّت وأسرت، فإذا بهذه الأجيال تنتفض مقتدية بذلك بإخوانها من أبناء العقيدة والمذهب وتنقض مجموعات الشباب المجاهد على العدو الإسرائيلي الغاشم لتوقع فيه الخسائر وتكبّده ما لا يطيق على احتماله فيلجأ إلى الإنسحاب من الجزء الأكبر من الأرض التي احتلّها وكان يحلم بضمّها نهائياً.
من هنا نقول إنّنا لا نشعر بأنّنا شعبان نعيش في بلدين، وإنّما نحسّ بأنّنا شعبٌ واحد يعيش في منطقتين فقط ، لأنّ الجغرافيا لا تستطيع أن توجد الفواصل بين من جمعتهم روابط وعوامل أقوى من الأرض لمجرّد كونها أرضاً، ولهذا نجد الإحترام الكبير لشعبنا اللبناني في إيران حيث الناس تستقبل الوافدين من لبنان بطريقةٍ تنمّ عن عمق هذا الشعور الوحدوي الذي يؤثر في النفس آثاراً بليغة لا تمحى آثارها بسهولةٍ ويسر، لأنّها أحاسيس نابعة من عمق الإلتزام بوحدة المصير والمنطلقات والأهداف.
ولهذا نرى عمق الشعور بالفخر والإعتزاز الذي يغمر قلوب هذا القسم الكبير من اللبنانيين الذين امتدحهم الإمام الخميني (قده) وجعل جهادهم حجة على كلّ العلماء والأمة الإسلامية، ويمتدحهم القائد المفدّى آية الله العظمى الخامنئي أدام الله ظله الشريف وهو الذي يعتبرونه قائدهم ومرجعهم وملهمهم ومرشد حركتهم الجهادية والروحية، ويستمدّون من قوة إرادته وصلابة عزيمته إرادة وعزيمة ليكونوا قادرين على إكمال طريق الجهاد حتى النصر أو الشهادة.
وينقل الدكتور محمد كاظم مكي نصاً في كتابه (الحركة الفكرية والأدبية في جبل عامل يقول فيه: "وعلى أثر حادثة الجزار وانقضاضه على جبل عامل وفتكه بأهاليه هربت عائلات عاملية محتمية في بلاد فارس ومنهم من طال له المقام هناك وما زالوا يقيمون ـ كعائلة الصدر الموزّعة بين إيران والعراق ولبنان ـ وفي إيران أضرحة ومدافن لشخصيات عاملية ـ كالشيخ البهائي والحر العاملي والشيخ عبد اللطيف العاملي وغيرهم كثير ـ وهي مع المؤلفات التي تركها العامليون في الفقه والأصول والفلك والرياضيات تشكّل جزءاً لا يُستهان به من التراث اللبناني على الأرض الإيرانية وتبين أثر العامليين إلى حد بعيد في النهضة العلمية الإيرانية، هذا وإنّ عدداً من العلماء العامليين قد كتبوا بالفارسية ونظّموا بها شعراً كالشيخ البهائي، يلاحظ من تاريخ الأعلام العامليين أنّ رحلاتهم العلمية إلى إيران كانت مزدهرة في القرنين العاشر والحادي عشر للهجرة الموافق للقرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد، على أنّ هذه الرحلات لم تنقطع أبداً ...) .
وختاماً فإنّ هذا الموضوع المهم لا تكفيه مقالة بهذه العجالة، وإنّما يحتاج إلى بحثٍ موسّع يوضح عمق هذه الروابط وتأثيراتها المتبادلة على الشعبين اللذين استفادا كثيراً عبر العصور والأجيال بنحوٍ إيجابي وأكبر دليل على ذلك هو الإستمرار الحي والفاعل لهذه العلاقة منذ بدأت وإلى الآن وللمستقبل إن شاء المولى العلي القدير.
والحمد لله ربّ العالمين