الجمعة, 22 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الصيام في القرآن

sample imgage

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: { يا أيّها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون}، البقرة ـ 183.

هذه الآية المباركة التي تتعرّض لبيان أصل وجوب الصيام كعبادةٍ مقرّرة في الإسلام، تهدف كما هي الغاية من العبادات الأخرى إلى أن تجعل من الإنسان مظهراً من مظاهر تجليات القدرة الإلهية الأزلية القادرة من خلال الطرق والوسائل التعبّدية خاصة المتاحة أمام البشر ليرتقوا إلى المستوى التي تتجلى فيه إبداعات الخالق تبارك وتعالى وقدرته المتعالية في تكوين النماذج البشرية، الإلهية بأفعالها وحركاتها التي تجسّد المعاني الإنسانية بصورتها الحقيقية الواقعية التي تعكس الحكمة العظيمة من وراء خلق الكون والحياة والإنسان، وليكون أولئك الإشعاع الرباني الذي يتحرك لينير الظلمات ويرفع الحجب من أمام أعين الغافلين والتائهين والضالّين، مع أنّه في أصل الوجود الإنساني كان ينبغي على الجميع أن يكونوا كذلك.

 

والصوم بكيفيته الحالية من خلال وجوب كونه في زمنٍ مخصوص هو "شهر رمضان" من كلّ عام، لم يفرضه الله على غيرنا من الأمم السابقة التي أوجب عليها تلك العبادة الجليلة، نعم كلّ الأنبياء (عليهم السلام) فقط ممن كتب الله عليهم الصيام ذلك الشهر كما ترشد إلى ذلك بعض الروايات مثلما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (أنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا)، فقلت له : فقول الله عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمنوا كتب ... }، قال : إنّما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء (عليهم السلام) دون الأمم، ففضّل الله به هذه الأمة وجعل صيامه فرضاً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أمّته)، وورد ما يقارب هذا المعنى أيضاً في الدعاء الخامس والأربعين من أدعية الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (عليه السلام) حيث جاء فيه :(ثمّ آثرتنا على ساير الأمم واصطفيتنا دون أهل الملل، فصمنا بأمرك نهاره، وقمنا بعونك ليله) فتخصيص شهر الله للأمة الإسلامية وحدها من بين كلّ الأمم التي بعث الله إليها الأنبياء والشرائع تكريمٌ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بشكلٍ خاص ولأمته بشكلٍ عام، ولعلّ مرجع هذا التكريم إلى أنّ هذه الأمة قد حفظت الشريعة الخاتمة، لأنّه لم تنلها أيدي العابثين والمحرّفين والمنافقين ليتلاعبوا بها حسب إرادتهم الخاصة كما حصل للشرائع الأخرى السابقة، ولأنّها من جهةٍ أخرى الشريعة التي أراد الله لها أن تستمرّ مع الحياة الإنسانية إلى الوقت المجهول عندنا والمعلوم عند الله كنهاية للدنيا وما فيها، وهذا المعنى يفترض بحد ذاته حفظ الشريعة وصونها، لأنه لن يكون بعدها أنبياء وشرائع أخرى تحلّ محلها في هداية البشرية وإرشادها وتصحيح مسيرتها إلى الحق تبارك وتعالى.

وانطلاقاً من كون التكاليف الإلهية الواجبة على البشر ترجع إلى غاياتٍ يُراد الوصول إليها لأنّها ناشئة عن المصالح الواقعية المعلومة لله عزّ وجلّ، فإنّ الصوم له غاية أيضاً، وهي عظيمة الشأن وكبيرة الدور والتأثير في حياة البشر، وفي تقرير مصيرهم الأخروي، تلك الغاية هي "التقوى" كما أوضحت ذلك نفس الآية الكريمة التي بدأنا واستفتحنا كلامنا بها، لأنّ التقوى تلك هي الضمانة للبشر التي تعينهم على تجاوز الكثير من السقطات والآثام التي تعترض حياة الإنسان في الحياة الدنيا.

والسرّ في ذلك أنّ الإنسان غالباً ما ينجذب إلى التمتّع بما في هذه الدنيا، وقد يجرّه هذا إلى أن تسيطر عليه الشهوات والملذات، فيضطرّ الإنسان حينئذٍ إلى اتباع كلّ السبل لتحقيقها ونيلها، وهذا المعنى قد يؤدي إلى خرق الحدود وعدم التزام الصراط المستقيم الذي ينظّم له عملية إشباع رغباته وشهواته بالنسبة المعتدلة الواقعية التي تحقّق الإكتفاء من دون تجاوز للضوابط والموازين الإلهية.

فالشهوات والملذات هي الوسائل التي يحاول الشيطان عن طريق ترغيب الإنسان بها وتحبيبها إلى نفسه أن يحرّفه عن طريق الله، ليحاول بذلك السيطرة على البشر وجعلهم جنوداً له يعيثون في الأرض الفساد ويعيشون الفحشاء والمنكرات، والشهوات كثيرة ومتنوعة، فمن شهوة البطن، إلى شهوة الفرج، وشهوة المال والسلطان والقوّة، فهذه كلّها يستعملها الشيطان كأفخاخٍ يضعها في طريق الناس وإن لم يكن عندهم من الوسائل الرادعة ما يمكنهم من مقاومة تلك الإغراءات الشيطانية والمكائد الإبليسية فإنّهم لا شكّ سيقعون فريسة تلك الشهوات ليغرقوا فيها من خلال تناولها من أيّ طريقٍ كان من دون مراعاةٍ وتفكير في المصير الذي سوف يلاقيه مثل ذلك الإنسان الضائع الذي صار مسخّراً بيد الشيطان الرجيم الذي زيّن له المعصية وحبّبها إلى نفسه، وكرّه إليه الطاعة وأبعده عنها، هذا التزيين الذي يجعل من حياة الإنسان حياةً مادية حيوانية خالصة ليس لله فيها شيء، وتجعل منه مجرّد بهيمة تجري وراء ملذاتها، ولهذا نرى أنّ الله يعبّر عن أمثال هؤلاء في كتابه: {إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا ً}.

لهذا أوجب الله سبحانه وتعالى الصوم، الذي يعين الإنسان الضعيف الإرادة أمام المغريات كما يقول الله عزّ وجلّ: {وخلق الإنسان ضعيفاً}، ليستطيع أن يقاوم الشيطان ويتحرّر من سلطانه عليه، لأنّ هذه العبادة بالذات دون غيرها من سائر العبادات الأخرى تستطيع أن تمنح الإنسان تلك القوة المعنوية الرادعة التي عن طريقها تقوى إرادة الإنسان الخيّرة في نفسه التي تجعله قادراً على كبح جماح النفس ولجمها من خلال ما يفعله الصائم من تركٍ للأكل والشرب والجماع وغير ذلك من الأمور التي تعتبر من أهم الوسائل المتاحة أمام الشيطان لغواية الإنسان، فالإعتياد على ترك هذه الأمور طواعية واختياراً من خلال الصوم تمنح الإنسان القدرة الكافية على محاربة شهوات نفسه عندما تريد أن تنطلق ويستطيع بالتالي أن يوقفها عند الحدّ الذي لا اختراق فيه للحدود والضوابط التي جعلها الله سياجاً وحاجزاً لا يجوز للإنسان أن يتعدّاه.

ولهذا نجد أنّ الكثرة من الأحاديث ترشد إلى هذا المعنى كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاريه بالجوع).

والغرق في الشهوات مُضافاً إلى أنّه إفسادٌ لحياة الإنسان، فهو طريق إلى الغفلة عن الله ونسيانه، لأنّ سلوك طريق الشهوات سوف يجعل الإنسان غافلا ً عن الله عزّ وجلّ، فينسى الله في غمرة ذلك، بل قد تصل إلى الحد الذي لا يتمكّن فيه المرء من الرجوع إلى الصراط المستقيم كما قال عزّ وجلّ في كتابه: {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}.

فكثرة الشهوات تميت القلب وتطفئ فيه أنوار الهداية والرشاد من خلال اسوداده بفعل المحرمات المتنوعة، ولهذا كان الصوم هو الوسيلة الوحيدة من أجل جلاء القلب وصفائه وانشداد النفس إلى الله، من خلال الضعف الجسدي الذي يعانيه الصائم فيشعر بضعفه ووهنه وعجزه، ويشعر بالتالي بحاجته إلى الإمداد والإستعانة بالقدرة الإلهية الأزلية، ويفهم بالتالي بأنّه لولا القدرة الممنوحة له لما كان قادراً على فعل الطاعة ولا على ترك المعصية.

فالصوم إذن هو من أهم الطرق التي جعلها الله عزّ وجلّ لتكون عوناً على محاربة الشيطان وإغراءاته لما فيه من تركٍ للكثير من الأمور المباحة للإنسان باختيار وإرادة حرّة من دون كبتٍ أو قهر، ولهذا نجد أنّ الله قد رفع من شأن هذه العبادة إلى الحد الذي نسبها إلى ذاته المقدّسة إجلالا ً لها وتعظيماً لشأنها كما في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :(قال الله تعالى : "الصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان حين يفطر وحين يلقى ربّه عزّ وجل، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك"). لأنّ الصوم طريق خاص يربط بين العبد وربّه فقط ليتوصّل من خلال ذلك الإنفتاح الصادق والصادر عن النية الصافية المخلصة لله عزّ وجلّ من أن يكون مبصراً لطريقه في الدنيا، عارفاً بموطئ قدمه، قادراً على محاربة شهوات نفسه ليبقى نور الله مشعّاًً داخل القلب الإنساني.

والصوم بالتالي هو الطريق الأوحد الذي من خلاله يتحرّر الإنسان من أسر الشهوات والملذات عبر عملية الجهاد ضدّ النفس، ولتصبح النفس مهيأة لفعل الطاعات والقربات من الله لأنّه بمقدار ما تتحرّر النفس من شهواتها بمقدار ما تكون مستعدّة في المقابل للتوجّه إلى خالقها ومفيض الوجود عليها.

اللهمّ اجعلنا ممّن يصومون كما تريدنا أن نصوم، وتقبّل منّا صيامنا وانفعنا به في الدنيا والآخرة، إنّك أنت السميع البصير.

"والحمد لله ربّ العالمين"