الوديعة وأحكامها
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3622
وعقد الوديعة من العقود التي جوّز الفسخ فيها في أي وقت، بمعنى أن إنساناً ما لو وضع ماله عند آخر بشكل وديعة لمدة ما، ثم خطر له أن يسترجع وديعته قبل ذلك يجب على المستودع رد المال إلى صاحبه، وكذلك لو قبل المستودع الوديعة ثم خطر له أن يردها إلى صاحبها فيجوز له ذلك ولا يحق لصاحب الوديعة الامتناع من قبولها.
ومن يقبل الوديعة عليه أن يكون قادراً على حفظها وقادراً على حمايتها، فإذا كان عاجزاً عن ذلك لا يجوز له قبول الوديعة لأن في القبول في هذه الحالة نوعاً من التفريط بحق الناس وتحديداً بحق المودع.
وكذلك لا بد في كل من المودع والمستودع أن يكونا بالغين عاقلين مكلفين، وعليه فلا يصح الإيداع من الصبي أو المجنون، كذلك لا يصح أن يكون المستودع صبياً أو مجنوناً لأن في ذلك تضييعاً للمال من دون ضمانة لصاحبه الذي سلّط صبياً أو مجنوناً على ماله.
ثم إن كل وديعة ينبغي أن يحفظها المستودع بما يناسبها كما هو المتعارف بين الناس، فمن يودع مالاً عند شخص عليه أن يحفظ له في مكان أمين كما لو كان لديه صندوق مقفل خاص بالأموال أو لديه خزنة كما هو المعمول به اليوم عند بعض الناس، ولو فرضنا أنه أودع عنده ثياباً، فينبغي على المستودع أن يضعها في المكان المخصص لها في بيته.
ثم لو فرضنا أن المودع حدد للمستودع مكاناً خاصاً ليحفظ له الوديعة فيه، لا يجوز في هذه الحالة للمستودع نقل الوديعة إلى مكان آخر، ويكون ضامناً فيما لو سُرقت أو تلفت لأنه خالف ما اشترطه عليه المودع، كما لو طلب منه وضع المال في "الخزنة" فوضعه المستودع في "ثوب ما" مثلا، ثم سُرق المال.
والمستودع كما دلت الروايات والفتاوى أمين، ومعنى الأمانة هنا أن هذا المؤتمن لا يضمن الوديعة إذا كان قد حفظها على الوجه المطلوب، ثم سُرقت أو تلفت أو ما شابه ذلك، لأن القاعدة الشرعية العامة هنا هي أن كل مال يؤتمن عليه الإنسان من قبل صاحبه بالوديعة أو العارية أو الوكالة وما شابه ذلك فهو غير ضامن ولو تلف من دون تعدٍ أو تفريط من المؤتمن على ذلك المال.
ثم أن المستودع يجب عليه الحفاظ على الوديعة من استيلاء الغير عليها إذا كان قادراً، نعم لو أجبره إنساناً أو أكرهه على تسليمه إياها، كما لو أخذها منه ظالم أو سارق بقوة السلاح، ففي هذه الحالة لا يضمن المال لصاحبه المودع، لأن القضية خرجت من يده وعن قدرته المادية التي كان بمقدوره من خلالها الحفاظ على الوديعة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى مسألة مهمة وهي أن عقد الوديعة يبطل بموت أيٍ منهما، فلو مات المودع يجب على المستودع رد الوديعة إلى ورثة المودع فوراً مع الإمكان أو على الأقل عليه أن يبلغ الورثة أن لمورثهم وديعة عنده، وإن مات المستودع فيجب على ورثته ردها إلى المودع أيضاً، لأن المودع وضع ماله أمانة عند الذي مات وليس عند ورثته.
وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة مهمة جداً، وهي أن المسلم لا يجوز له أن يخون الأمانة والوديعة حتى لو كانت لغير المسلم، ولذا يجب رد الوديعة حتى للكافر إذا كان محترم المال، وحتى يجب ردها للكافر الحربي لو فرضنا أن ماله الذي أودعه كان من المال المباح الذي لا حق للمسلم تملكه والسيطرة عليه.
وكذلك لو فرضنا أن المستودع حصلت لديه حالات معينة لم يعد قادراً معها على حفظ الوديعة كالمرض أو كظهور علامات الموت أو كالخوف من أخذ الظالم منها، فيجب على المستودع في هذه الحالة رد الوديعة إلى صاحبها لتكون تحت مسؤوليته، وإذا لم يكن قادراً من الوصول إلى صاحبها يمكن أن يسلمها إلى الحاكم الشرعي أو وكيله، ثم لو فرضنا أن الرد إلى صاحبها غير ممكن والحاكم أو وكيله غير موجود فيجب على المستودع أن يوصي بها إذا كان بسبب عدم القدرة على الحفظ هو ظهور علامات الموت.
ثم لا بد من تفسير ما هو المراد من التعدي والإهمال اللذين يواجبان الضمان على المستودع، فالتعدي هو التصرف في الوديعة بنحو لم يكن صاحب المال قد أذن للمستودع أن يتصرف، كما لو أودعه سيارة ولم يسمح بسياقتها، فساقها المستودع وحصل تلف في السيارة فهنا يكون قد تعدى وعليه ضمان ما أتلف من السيارة، أو لبس الثياب التي أودعها عنده من دون أن يكون قد أخذ الإذن باللبس فتمزق بعض الثياب فهو ضامن ليقمتها وما شابه ذلك من الأمثلة. وأما التفريط فهو الإهمال في الحفظ فمثلاً إذا أودعه مالاً في مكان مخصص يُحفظ فيه فوضعه في مكان غير أمين فأدى إلى سرقته ، أو أودعه أثاث منزل فوضعه في مكان ينزل عليه المطر فتلف كلياً أو جزئياً فهو ضامن أيضا.
ثم إن الأمانة على قسمين – أمانة مالكية – وهي إذا أيدع المال عند شخصٍ ما قد حصل من قبل مالك المال مباشرة وقد سلمه إليه ليحفظه له، أو سلمه مالاً ليتاجر به كما في عقد المضاربة، أو سلّمه مالا ليشتري له شيئاً كما في عقد الوكالة وما شابه ذلك و – أمانة شرعية – وهي ما إذا كان المال الواصل إلى يد إنسان لم يكن عن طريق صاحبه ولا عن طريق أي إنسان، فمثلاً لو رأى شخص شخصاً آخر يسرق شيئاً فأخذه منه ولم يعرف صاحبه فيكون هذا المال المسروق أمانة شرعية، بمعنى أن الشرع الإسلامي يجعل هذا الإنسان الواضع يده على مال الغير أميناً شرعاً لأنه لم يغصب المال ولم يسرقه، وإنما استنقذه من السارق وخلّصه من يده، أو كما لو طار ثوب ما ووقع في حديقة دار إنسان فهذا الثوب يصبح أمانة شرعية، وهكذا كل مال حصل عليه إنساناً من أمثال هذه الطرق ولم يكن قد اعتدى أو غصب المال فهو أمانة شرعية بحكم الإسلام وفتاوى الفقهاء الأجلاء.
وبما ان النفس البشرية قد يصيبها الطمع أحياناً فمن الأفضل والأحسن توثيق الوديعة بالشهود أو الإقرار الكتابي من المستودع لضمان الحق في الأمانة التي أودعها عند الأخر، ولذا لا يجوز للمستودع إنكار الوديعة وهو ظلمٌ كبير للنفس وغصبٌ لحق الناس المودعين، ولذ قال الله في كتابه الكريم :( إن الله يأمركم أن تودوا الأمانات إلى أهلها) ويقول عز وجل أيضاً: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة، فإن أمن بعضكم بعضاً فليودّ الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه) أو قوله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون).
ولو بأس في ختام هذا البحث ذكر بعض الإستفتاءات الموجهة إلى سماحة الإمام الخامنئي "دام ظله" مع أجوبتها في هذا المجال
إستفتاء 753 – الجزء الثاني – المعاملات – إحترق مصنع بمحتوياته كافة من الآلات والمواد الأولية، مضافاً إلى كمية من البضائع والسلع المودعة فيه بعنوان الأمانة من بعض الأشخاص، فهل على مالك المصنع أو على القائم بأعماله ضمانها لأصحابها؟
الجواب: إذا لم يستند الحرق إلى فعل أحد ولم يكن هناك تقصير في حفظ البضائع المودعة في المصنع فليس على أحد ضمانها لأصحابها.
إستفتاء 754- الجزء الثاني – المعاملات – أودع رجل كتاب وصية عند شخص ليدفعه بعد موته إلى ولده الأكبر، إلا أن هذا الشخص امتنع عن إعطائه له، فهل يعتبر هذا العمل خيانة منه في الأمانة؟
الجواب: الامتناع عن رد الأمانة إلى من عيّنه المستأمن يعتبر نوعاً من الخيانة.
إستفتاء 756 – الجزء الثاني – المعاملات – دُفع لشخص أمين مبلغ من المال للنقل إلى بلد آخر، ولكن المال يُسرق منه في الطريق، فهل عليه ضمان ذلك المال؟
الجواب: لا ضمان على الأمين ما لم يثبت عليه التعدي أو التفريط في حفظ.
والحمد لله رب العالمين