العرف ودخالته في الإستنباط
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 4934
من هنا كان لا بد من تحديد هذا العرف لمعرفة كيفية تدخله في عالم الأحكام الشرعية، وإلى أي مدى يمكن الأخذ به والعمل على وفقه، خصوصاً إذا لاحظنا أن الشرع الإسلامي في الكثير من موارد أحكام المعاملات أرجع الأمر إلى العرف لتحديد موضوعات الأحكام ومعرفة معاني الألفاظ التي لم يحددها الشرع وأوكل الأمر إلى العرف، والعرف كما نراه يمكن أن يكون عرفاً صحيحاً موافقاً لأغراض الشريعة وقد يكون مخالفاً أيضاً.
لذا لا بد من الوقوف عند هذا الأمر وبحثه بطريقة توضحه وتبين المراد منه وما هو المقبول شرعاً وما ليس مقبولاً حتى يمكن الإعتماد عليه ، حيث ينبغي لمعرفة الحكم الشرعي وسعة موضوعه أو ضيقه أو معرفة المعنى الظاهر المراد من الدليل الشرعي.
وهنا عدة نقاط لا بد من الوقوف عندها والبحث فيها وهي:
1- معنى العرف.
2- تقسيمات العرف.
3- حجية العرف.
4- المجالات التي للعرف دخل فيها في الأمور الشرعية.
- أولاً : معنى العرف : وقد ذكر الفقهاء للعرف معانٍ كثيرة إلا أن أغلبها يرد عليه الإشكال بأنها غير جامعة أو غير مانعة من قبيل ("تعريف الغزالي" : "العرف هو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطبائع السليمة بالقبول". أو تعريف "بدران" : "العرف هو ما إعتاد الناس في سلوكهم ومعاملاتهم واستقامت عليه أوضاعهم". أو تعريف الأستاذ عميد زنجاني حيث يقول: "العرف هو العمل الإرادي الذي يعتاده الناس من دون نفرة أو إشمئزاز منه ويطلق عليه الفقهاء السيرة العقلائية أو العملية") ومن أهم الإشكالات على هذه التعاريف أنها لا تشمل العرف القولي، ولا العرف الخاص ولما تعارف عند الناس تركه ،ولا تشمل العرف الخاص عند بعض الناس دون جميعهم. وأما أصح التعاريف والمعاني للعرف وأقربها الى الفهم السليم والمنطقي فهو تعريف "عبد الوهاب خلاف" حيث يقول (العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك ويسمى "العادة") حيث يشمل هذا التعريف تقريباً كل شيء ولا ترد عليه الإشكالات الواردة على التعاريف الأخرى التي ذكرناها.
- ثانياً : تقسيمات العرف : ينقسم العرف باعتبارات متعددة الى عدة أقسام منها:
أ- العرف العام والخاص: فالعرف العام هو ما تبانى عليه العقلاء على اختلاف مذاهبهم وعاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم ولغاتهم وأزمانهم، وهذا ما ينطبق على المتفاهم العرفي من معاني الألفاظ عند كل شعب حيث يأخذ بظاهر المعنى من اللفظ، ويشمل أيضاً سيرة العقلاء في التملك بالحيازة، وأمارة اليد على الملكية، ورجوع الجاهل الى العالم وما شابه ذلك، أو ما تعارف عند الناس جميعاً من أن إزالة الدم لا تستلزم إزالة اللون، لأنهم يعتبرون أن اللون وحده لا يدل على بقاء الدم ووجوده. وأما العرف الخاص فهو الذي يكون مختصاً بفئة معينة من الناس من أصحاب الحِرَف والمهن أو تجمعهم لغة واحدة أو قومية واحدة وما شابه ذلك من التقسيمات غير العامة الشاملة لكل الناس، ويشمل هذا العرف فيما يشمل "سيرة المتشرعة" الحاصلة من استقرار عمل المسلمين في استعمال اللفظ في معنى معين أو الإتفاق على فعل معين أو ترك أمر معين، ويشمل أيضاً عرف أهل بلد معين بذاته أو محل خاص.
ب- العرف الفعلي والقولي : فالعرف الفعلي هو عبارة عن النهج العملي الذي يتبعه الناس في تدبير أمورهم ومنشؤه هو التكرار الذي يؤدي الى حصول حالة مستقرة في التعامل مع الأشياء ويشمل العرف الفعلي "سيرة العقلاء" في التعامل فيما بينهم كما في تعاملهم مع قضايا المعاملات ويشمل "سيرة المتشرعة" التي هي عبارة عن سلوك المتدينين والملتزمين المعاصرين لزمن الأئمة (عليهم السلام) كما في غسل الوجه من الأعلى الى الأسفل وإمضاء المعصوم(عليه السلام) لهذا الفعل، ويشمل سيرة بعض أهل البلدان الذين لديهم عرف خاص لبعض الأمور كما في بيع بعض أنواع المبيعات بالعدد لا بالوزن ولا بالكيل، بينما في بلدان أخرى قد تباع بالكيل أو بالوزن ،ويشمل الإنصراف اللفظي بالتبادر الى معنى محدد من المعنى كما لو كان المتعارف عند شعب ما أكل لحم الشاة فعندما يأمر المشتري خادمه بشراء لحم، فإنه من المتبادر هو شراء لحم الشاة لا لحم البقر أو الجمل مثلاً.
ج – العرف المطّرد والغالب والمشترك : فالعرف المطّرد هو المتعارف عليه في جميع البلدان على اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم وأساليبهم كما هو المتعارف في البيع المعاطاتي مثلاً، والغالب هو العرف الذي يكون مورد إتفاق عند أغلبية الناس وليس جميعهم كما في تقسيم المهر مثلاً في الكثير من عالمنا الإسلامي الى معجل ومؤجل بينما في بلدان إسلامية أخرى قد لا يكون الأمر كذلك بحيث يجب على الزوج دفع المهر كاملاً حين العقد أو بعد مدة محددة فيه.والمشترك هو العرف الذي تتساوى الناس بالعمل به عموماً وهو قريب من المطرد في معناه كما في إكرام الضيف مثلاً وما شابه ذلك.
د – العرف المقارن وغير المقارن : والمراد بالعرف المقارن هو الذي تقارن مع ظهور الإسلام وبداية التشريع وهذا يشمل العرف القولي والفعلي، وغير المقارن هو الذي حدث بعد زمن التشريع كما في العصور المتأخرة كما في الكثير من القضايا التي صارت متعارفة بين الناس ولم يكن لها وجود زمن التشريع وسنبيِّنه لاحقاً.
ه – العرف الدقي والمسامحي : والمراد بالعرف الدقيق هو الناتج عن الدقة في التحقيق كما في البحث الفلسفي حيث يقول مثلاً بأن بقاء لون الدم دليل على أن عين الدم ما زالت موجودة، بينما عند العرف الذي يتسامح في مثل هذه الأمور يقول طالما أن عين الدم قد زالت فاللون لا أثر له ولا نحكم بنجاسة اللون، والشارع بما أن خطابه هو للعرف العام المبني على المسامحة في بعض الأمور فهو المرجح للأخذ به دون العرف الدقيق.
و – العرف الصحيح والفاسد : فالعرف الصحيح هو الموافق للشريعة وأغراضها كالعرف القائم على الأخذ بظواهر الألفاظ أو تعامل الناس بالدراهم المتعارفة في بلدهم في مجال المعاملات وما شابه ذلك، وأما العرف الفاسد فهو المخالف للشريعة وأغراضها كالمعاملات الفاسدة والربوية كالتجارة بالمحرمات ومسائل اللهو والغناء وما شابه ذلك، وواضح هنا أن العرف الفاسد محرم شرعاً ولا يجوز لأنه لا ينسجم مع طبيعة المجتمع الإسلامي، وإن كان للأسف منتشراً فضلاً عن انتشاره في العالم الغير إسلامي.
- · ثالثاً : حجية العرف شرعاً : وقد ذكر الفقهاء والأصوليين شروطاً لكون العرف حجة شرعية ومنها:
1- أن يكون العرف عاماً وغالباً وهذا شرط لازم في كل أقسام العرف التي تكلمنا عنها في الفقرة السابقة، إذ لو كان العرف مختلفاً بين الناس ومتنوعاً لا يحقق موضوع الحجية شرعاً، كما لو فرضنا أن العرف مختلف في بيع شيء موزوناً تارة ومكيلاً أخرى ومعدوداً تارة ثالثة فهنا لا ندري أن الحجية لأي طريقة عرفية فلا حجية في المقام، أو كما لو كان للفظ عدة معان متبادرة منه ولم نعلم أي معنى أعطاه الشارع الحجية بالإمضاء فهنا يكون المعنى مجملاً ولا حجية للمجمل كما هو المعروف في علم الأصول في مبحث الأدلة اللفظية.
2- أن يكون العرف دقيقاً : وهذا حيث ينبغي الدقة كما في الإقتدار والموازين ومساحة الكر ووزنه والمسافات التي تختلف الأحكام الشرعية باختلافها، فهذه جميعاً يجب الدقة فيها، فعندما يقول الشارع بأن الكرّ لا ينجس فيجب أن تكون كمية الماء بمقدار كر فعلاً فإذا نقص ولو قليلاً لم يعد معصوماً عن التنجس بالأشياء النجسة والمتنجسة.
3- أن لا يكون العرف مخالفاً للعقل العملي: أي أن يكون العرف مطابقاً للذوق السليم والرأي العام العقلاني والمتوازن، أما لو كان العرف فاسداً فلا يكون مشمولاً لأدلة الحجية كعرف القمار والميسر واللهو واللغو والغناء وغيرها من المفاسد التي تتنافى مع أغراض الشريعة وأهدافها النبيلة الإنسانية.
4- أن يكون العرف مقارناً : بمعنى أن العرف الذي يكون حجة هو ما كان مقارناً لزمن التشريع والذي يثبت عن طريق "سيرة العقلاء" أو "سيرة المتشرعة" حيث يثبت لدينا ذلك إتصال العرف بزمن المعصوم(عليه السلام) كما لو مسح المكلَّف على رأسه أمام المعصوم وسكت عنه فهذا يدل على الإمضاء والتقرير، أو كما في جعل الدية مائة من الإبل فهذا العرف المقارن للإسلام أقره الإسلام وأمضاه، والكثير من المعاملات والإيقاعات التي كانت موجودة زمن التشريع ما عدا ما أبطله كـ "بيع الكالي بالكالي" بينما أمضى الشارع العرف القائم في بيع النقد والدين والنسيئة والسَّلَم أو "السلف"، وكذلك في معاني الألفاظ ينبغي أن يكون المعنى المتبادر من اللفظ قد ثبت بإحدى السيرتين أنه كان كذلك في زمن المعصوم(عليه السلام) ليكون حجة، لأن المدار للحجية هو من "زمن الصدور" لا الأزمنة المتأخرة.
5- إحراز عدم ردع الشارع عن العرف: لأن ردع الشارع كاشف عن عدم صحة هذا العرف لإخلاله بشروط الشريعة وأغراضها كما ذكرنا في تحريم بيع الكالي بالكالي أو تحريم بعض أنواع النكاح التي كانت موجودة زمن الجاهلية وهو "نكاح الشغار" وإحراز عدم الردع يتوقف على ثلاثة أمور هي:
- الأول – أن تكون السيرة العقلائية بمنظر ومرأى المعصوم نفسه(عليه السلام) ومتصلة بزمانه وفي عهده.
- الثاني – أن لا يكون هناك مانع من الردع كالتقية حتى لا يكون سكوته(عليه السلام) كاشفاً عن الإمضاء والتقرير.
- الثالث – عدم وجود دليل لفظي من القرآن أو السنة يصلح لردع الشارع عن عرف ما في أمر ما. فإذا تحققت هذه الشروط الثلاثة كان هناك إحراز لعدم الردع ويكون العرف بالتالي حجة شرعية.
6- عدم التصريح بخلاف العرف : لأن مع وجود لفظ صريح بخالف العرف من الشارع كان هذا العرف باطلاً، فمثلاً إذا حصل عقد بيع بين البائع والمشتري وكانت السيرة العرفية قائمة على تقسيط المشتري للثمن أو كان العرف يقسم المهر الى معجل ومؤجل ولم يصرح الشارع بخلاف ذلك فنستكشف أن الشارع أمضى هذه السيرة مع أن عقد البيع مقتضاه أن يدفع المشتري كامل الثمن وأن يدفع الزوج كامل المهر، فهنا يكون عدم التصريح بالخلاف كاشفاً عن إمضاء عرفية تقسيط كل من الثمن والمهر وسبب تقديم التصريح بالخلاف لأنه متيقن بينما دلالة العرف ظنية وظهورية، والمتيقن مقدم على الظن والظهورلأنه أوضح منهما في الدلالة والمعنى.
7- العرف ليس دليلاً مستقلاً : وذلك لأن العرف كاشفيته ظنية لا غير فيحتاج الى ما يجعله حجة شرعية، وحجيته تأتي من إمضاء الشارع له من عدم الردع عنه أو التصريح على خلافه، كما في "السيرة العقلائية" أو "السيرة المتشرعة"، وعليه فالعرف هو كاشف عن السنة أو داخل فيها وليس دليلاً مستقلاً في مقابل الكتاب والسنة.
8- مراتب حجية العرف : ثبت إذن أن العرف العام هو المرجع في فهم مداليل الخطابات الشرعية، فإذا فسر الشارع المقدس المراد من اللفظ كانت هناك "حقيقة شرعية" كما في الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس، فهنا لا مجال للعرف لأن العرف الشرعي الآتي من الشارع نفسه مقدم على العرف العام، كما أنه عند فقد الحقيقة الشرعية فإن الفهم العرفي العام مقدم على المعنى اللغوي، لأن الشارع يخاطب العقلاء فإذا تبانوا على أن يتبادر من اللفظ معنى معين نأخذ به دون غيره من المعاني الآخر التي يحتملها اللفظ ولكنها لا تتبادر الى الأذهان كالمعنى المتبادر عند العرف من ذلك اللفظ، كما في لفظ "الصعيد" حيث المتبادر الى العرف كل ما كان على وجه الأرض وهو معدود منها، وليس خصوص التراب الذي وإن كان متبادراً أيضاً إلا أنه ليس بقوة تبادر كل ما كان على وجه الأرض ولذا يفتي الفقهاء بصحة التيمم على كل ما كان يصح أنه من الأرض عرفاً.
- · رابعاً : مجالات العرف في الإستنباط : للعرف دخالة في الإستنباط للأحكام الشرعية في موارد عديدة هي:
أ- فيما إذا لم يكن هناك دليل على الحكم الشرعي سوى كاشفية العرف، ولكن شرط هذا العرف أن يكون عاماً غير مختص بزمان أو مكان ما مثل "البيع المعاطاتي" الذي نستدل على صحته بالسير العقلائية القائمة منذ تشكُّل المجتمعات الإنسانية والشارع لم يردع عنه أو يصرح بخلافه فهذا يكشف عن صحة المعاطاة ولا يلزم أن يكون البيع بالصفة بالصيغة فقط.
ب- السيرة العقلائية القائمة على التصرف في المباحات أو الأملاك الواسعة مع عدم النهي من أصحابها حيث نرى أن الناس تشرب من مياه الأنهار وتغسل ثيابها وتغتسل وتأكل وتشرب والشارع رأى ذلك ولم يردع عن ذلك، فيكون عدم ردعه كاشفاً عن الإمضاء، وكذلك التملك بالحيازة.
ج- الخطابات الشرعية التي ليس لها معنى شرعي خاص، فالمرجع في تحديد المعاني المطلوبة هو العرف العام، كما في معنى الغناء واللحية والصعيد والفاسق وغير ذلك، حيث نرى أن الشارع لم يُعطِ معانٍ شرعية لهذه الألفاظ وغيرها، فهنا يكون العرف هو المحكَّم لمعرفة المعاني وتحديد المراد منها شرعاً ويتم الحكم الصادر من الفقهاء على أساس ذلك الفهم العرفي العام، ومن الخطابات الشرعية في هذا المجال يدخل مثل لفظ "إحياء الموات" و "المؤونة المستثناة من الخمس" وكثير من غير ذلك مما ورد في الفقه الإسلامي.
د- الموارد التي لم يكن لها مورد انتفاع عند العقلاء وكانت محكومة بالحرمة كبيع الدم مثلاً حيث أنه في الأزمنة السابقة لم يكن للدم منفعة، بينما في هذا الزمن صار له منفعة وهي الإستفادة منه في إنقاذ حياة المرضى المهددين بالموت فيعطونهم دماً من أشخاص يبيعونه، فهنا بما أن العرف العام قد وجد للدم منفعة عقلائية بسبب تغير الظروف الزمانية لم يعد البيع للدم حراماً ولم يعد ثمنه سحتاً، بل صار بيعه مشروعاً وثمنه حلالاً، وهذا داخل في العرف المتأخر، لكننا نقطع بأنه لو كان مقارناً وكانت للدم هذه الإستفادة، فإن الشارع لن يردع عنها وسيقررها من الناحية الشرعية، وكذا الحال في الكثير من المعاملات التي تعارف الناس العقلاء عليها في عصرنا ولم تكن موجودة في زمن التشريع كعقد التأمين و "الخلو" و "معاملات دراسة الجدوى" وغيرها من أنواع المعاملات الحديثة فهذه يمكن إعتبارها ممضاة شرعاً لأنها ناتجة عن "سيرة العقلاء" بما هم عقلاء، مضافاً الى وجود الأدلة اللفظية التي تقر ما يتوافق عليه العقلاء وتشمل بعمومها مثل هذه المعاملات مثل "أوفوا بالعقود".
هذا باختصار مل يمكن قوله عن العرف ودخالته في إستنباط الأحكام الشرعية، ولا شك أن هذا البحث مهم، ومن الضروري إغناؤه بدراسات أوسع وأشمل لأن له مجالاً كبيراً في الفقه والأصول الإسلاميين، خصوصاً مع ظهور أعراف جديدة منها الصالح ومنها غير الصالح مما يقتضي بالتالي مجاراة ذلك ببيان ما يتوافق منها مع أغراض الشريعة وما يتعارض معها.
والحمد لله رب العالمين.