الإثنين, 25 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

في ذكرى المولد النبوي الشريف

sample imgage

كانت ولادة رسول الله خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) منتظرة عند أهل الأديان السماوية نتيجة للبشائر الموجودة في الدينين اليهودي والمسيحي عن ولادته المباركة في أرض الجزيرة العربية، وقد أكد القرآن الكريم هذا الانتظار في العديد من آياته كما في قوله تعالى: (النبي العربي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل)، وكذلك في قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم عليهما السلام: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).

 

وتزامنت ولادته مع العديد من الأحداث المهمة أبرزها ما حصل مع أبرهة ملك الحبشة الذي أراد نقل الكعبة إلى بلاده لتصبح مكان حجّ الناس، وجاء بجيش جرار لإنجاز هذا العمل الذي فيه تحد واضح لإرادة الله عزوجل، والكل يعلم ماذا كان مصير ذلك الجيش الذي سلّط الله عليه الطير الأبابيل التي فتكت به وبملكه، ولذا سمّي العام الذي ولد فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ " عام الفيل "

ولا شك أن تلك الولادة كانت إيذاناً لبداية عهد جديد في تاريخ البشرية لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحمل المشروع الإلهي لإخراج الإنسان كله من الظلمات إلى النور، ولإحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولذا نجد أن القرآن يعتبر أن بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأداء هذه المهمة الجليلة هي باب الرحمة كما قال تعالى عن ذلك: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

أما عقيدتنا في هذا النبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي أنه بشر كالآخرين على المستوى الجسدي يأكل ويشرب كما يأكل ويشرب الناس الآخرون، ويجري عليه ما يجري عليهم من حالات الصحة والمرض وغير ذلك، ولا نضيف إلى شخصيته من هذه الناحية أية إضافة بحيث يخرج عن إطار المخلوقية لله عزوجل، وهذا ما قاله القرآن أيضاً: (إنك ميت وإنهم ميتون) في خطابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

إلا أنه مع اشتراكه في المخلوقية مع سائر الناس كانت له مواصفات متميزة في ذاته جعلته في مقام القداسة المطلقة بالنسبة للبشرية حتى الأنبياء منهم، فهو خاتم الأنبياء كونه جاء بالرسالة الإلهية الشاملة لما سبقها من أديان، والمحتوية على الإضافات المتناسبة مع الحاجات الإنسانية إلى أن تقوم الساعة، وهو حبيب الله عزوجل صاحب المكانة التي لم يتوصل إليها غيره كما في القرآن: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)، فهو في عقيدتنا نبي الأنبياء وإمام الرسل أجمعين وأمارة ذلك أنه صلى بالأنبياء إماماً في حادثة الإسراء والمعراج المعروفة، وهو مع ذلك معصوم كمال العصمة عن الخطأ والزلل، وعصمته ليست مختصة بزمن ما بعد بعثته بالنبوة، بل العصمة هي الوصف الملازم لذاته الشريفة غير قابلة للانفكاك أو الانسلاخ، ومعنى العصمة هي عدم القابلية في النفس لارتكاب الذنب أو حتى مجرد التفكير فيه في الجانب السلبي، والطاعة المطلقة في الجانب الإيجابي، وكل ذلك ناتج عن تلك الملكة والقدرة الإيمانية التي تجعل من المعصوم متمكناً في نفسه للتفاعل مع متطلبات الرسالة من دون الوقوف عند نوازع النفس وشهواتها التي قد تدفع بالبشر العاديين إلى السقوط هنا أو هناك من خلال الانحرافات التي تحدث في نفوسهم وفي أفعالهم، ولذا لا تصح نسبة عدم العصمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أي مرحلة من مراحل حياته لمنافاة ذلك مع مقام النبوة أولاً، ولمنافاة ذلك لشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال الله عنه في الحديث القدسي (لولاك لما خلقت الأفلاك) وكما جاء في قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)، إذ لا يعقل أن يكون هذا الخطاب تاماً إلا مع كمال العصمة وشمولها لكل مراحل حياته الشريفة، ولذا نجد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته الشريفة كان ملقباً في قومه بـ "الصادق الأمين "ومن هنا نستطيع أن نقول إن العصمة لا تعني عدم ارتكاب الذنب فقط، بل تشمل عدم ارتكاب ما هو خلاف الأولى، اي أن العصمة تمنع صاحبها حتى من مخالفة القواعد والأعراف الاجتماعية التي لا تخالف الشريعة أحياناً، وتمنع المتميز بها من مخالفة قواعد السلوك الاجتماعية المقررة في الشرائع الإلهية، وخاصة في الشريعة الإسلامية.

ويضاف إلى ذلك أن ارتكاب الذنب من جانب صاحب العصمة في زمن ما قبل البعثة بالنبوة، أو تجويز ارتكاب خلاف الأولى في زمن النبوة، يعطي المبرر والعذر الكافيين لكل إنسان في ارتكاب الذنوب في أي موقع من مواقع الحياة، لأن صدور هذه الانحرافات عن مقام العصمة تجعل من صدورها عن غير المعصوم ذات أولوية نظراً لعدم وجود تلك القدرة المانعة عن الذنب عند غير المعصوم، وفي هذا التوجه الفكري للعصمة ما لا يخفى من المفاسد والأضرار التي يمكن أن تصيب العقيدة الإلهية.

من هنا نقول صراحة بأنه لا محيص عن الالتزام بالعصمة الكاملة والشاملة لحياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويؤكد هذا المعنى الأدلة العقلية الكثيرة، وكذلك الأدلة الواردة في القرآن والسنة، ومنها قوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا) إذ لو كان ارتكاب الذنب جائزاً حتى في حال عدم التلبس بالنبوة فإن هذا يمنع من حصول الاطمئنان الكافي بالأخذ عنه نظراً للخدشة الحاصلة في شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو من زمن ما قبل البعثة. وكذلك نجد في الحديث الوارد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (الإمام منا لا يكون إلا معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلق فيعرف بها، ولذا وجب أن يكون منصوصاً).

لهذا كله تميز المذهب الجعفري من بين كل المذاهب في الإسلام بالقول بعصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ ولادته وحتى رحيله إلى ربه راضياً مرضياً، ونفوا عن شخصه الكريم أي فعل فيه منافاة ولو لخلاف الأولى مما لا يدخل تحت عنوان الواجبات والمحرمات، بل إن العصمة في المذهب الجعفري تمتد لتشمل كل الأئمة الطاهرين (عليه السلام) الذين حملوا الأمانة الإلهية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوماً.

هذه هي بنحو إجمالي ومختصر عقيدتنا في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أرسله الله هادياً وبشيراً ونذيراً، وقام بواجبه على الوجه الأكمل واستطاع أن يجمع أسباب القوة المشتتة في زمانه وأن يرسي قواعد العبادة لله عزوجل من خلال ما حققه من اختراقات مهمة في ذلك العصر، وانتصر على الكفر من خلال انتصاره على رمزه في ذلك الزمن وهي " قريش " ويعلن من مكة المكرمة ومن قبلة المسلمين الكعبة الشريفة نهاية عصر عبادة الأوثان، وبداية عصر عبادة الرحمن، وأرسى قواعد الدولة الإسلامية في المدينة المنورة لتنطلق من هناك وتصبح أكبر دولة عرفها تاريخ البشرية على الإطلاق.

ونحن الذين نعيش في هذا الزمن أحوج ما نكون إلى الإيمان بذلك المقام المعظم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يبقى لشخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك التأثير العظيم في نفوس المسلمين اليوم الذين يعيشون أوضاعاً صعبة جداً على مستوى حركة الصراع في العالم بين عالم المستكبرين بقيادة الشيطان الأكبر " أمريكا " وبين عالم المستضعفين الذي يضم عالمنا الإسلامي كله، وعلى مستوى حركة صراع الأمة مع الكيان الغاصب " إسرائيل " التي تنتهك حرماتنا وتدنس مقدساتنا الإلهية عامة والإسلامية خاصة.