الإسراء والمعراج.2
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2278
وعند قراءة هذه الحادثة في مسيرة الخط الإلهي الرسالي العام كان لا بد من التوقف عندها من حيث مجرياتها وربط ذلك بالأسباب والنتائج.
أما من حيث المجريات فإن تلك الرحلة قد حدثت " ليلاً " كما يستفاد ذلك من كلمة " أسرى " حيث بدأت مرحلتها الأولى من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، ومن هناك انطلقت المرحلة الثانية وهي " العروج إلى السماء " حيث اخترق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله عزوجل كل تلك السموات حتى وصل إلى مقام لم يستطع فيه جبرائيل " أمين الوحي الإلهي " و " رابط العلاقة " ما بين الله وأنبيائه من التقدم أكثر، وفي ذلك يقول القرآن: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)، ثم كانت العودة إلى مكة المكرمة، وكان كل ذلك في ليلة واحدة لا غير.
وأما أسباب هذه الحادثة فيمكن أن نجد بعضاً منها ولا يمكننا الادعاء بأننا قادرون على الإحاطة بكل أسبابها، لأن الحادثة تتضمن الكثير من الأمور الغيبية بالنسبة إلينا ولا نتمكن من أن نغوص فيها من دون دليل ولا برهان، وأما الأسباب المعقولة وفق ما تحتمله النفوس والقلوب فهي كما يلي: الأول : تكريم النوع الإنساني: إذ لا شك أن هذه الحادثة هي نوع تكريم خاص لهذا النوع من المخلوقات التي أوجدها الله عزوجل لبيان قدرات وقابليات هذا النوع الذي استطاع أن يجسد الكثير من المعاني وأثبت أنه أهل ليكون خليفة الله في أرضه والمتصرف فيها بإرادته وأن تسخير الكثير من المخلوقات الأخرى لخدمته وتحت تصرفه لم يكن لغوياً بل ذا هدف عظيم وكبير.
الثاني : تكريم خاص للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذ مما لا ريب فيه أن رسول الله وخاتم الأنبياء محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بلغ الغاية في الكمال الذي يستطيع أن يصل إليه مخلوق، ولهذا خصه الله بأوصاف وألقاب جليلة، حتى استطاع أن يتفوق في صفاء إيمانه ويقينه بربه مرتبة الملائكة المقربين كجبريل وإسرافيل وعزرائيل، ولذا قال جبرائيل عندما وصل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى " سدرة المنهى " لو اقتربت خطوة بعد هذا لاحترقت "، بينما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاوز تلك المرحلة التي لم يبلغها أحد قبله ولن يصل اليها أحد بعده، وهذا لا ريب فيه أنه تكريم خاص جداً بسبب المقامات الإيمانية والروحية التي تميز بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو قمة الإنسانية وهو ممثلها الأوحد بلا منازع.
الثالث : بيان فضله على الأنبياء (عليه السلام) وهذا ما نستفيده من الروايات الكثيرة التي توضح أن رحلة الإسراء من المسجد الحرام قد انتهت في المسجد الأقصى، وهناك وجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنبياء أولي العزم (إبراهيم وموسى وعيسى,ونوح) وأنبياء كثيرين جداً في انتظاره، وإذا بجبرائيل يأخذ بيد الحبيب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليؤم فيهم الصلاة ويكون إمامهم، وهذه الإمامة ترمز إلى إمامته العامّة عليهم، وإلى أن أتباع الديانات السماوية المعتبرة يجب أن يؤمنوا به لأن أديانهم وأنبياءهم كانت المقدمات الممهدة لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ولدينه الخاتم المستوعب لها والمتطور عنها.
الرابع : إعطاء القوة للشريعة الخاتمة : فالإسلام هو الدين الإلهي الخاتم، وهو المقدّر له الاستمرار في السير مع الإنسانية إلى يوم الوقت المعلوم، وبسبب عدم وجود نبي مرسل بعد الخاتم الحبيب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت الرسالة هذه بحاجة إلى شحنة دافعة من القوة تسير معها بنحو الدوام تزرع اليقين والثبات في القلوب من خلال المشاهدات الغيبية بالنسبة إلينا، ولذا أثبتها الله عزوجل دون غيرها من معجزات النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تكون إلى جانب الإسلام ومعه.
الخامس : الآثار التربوية للإسراء والمعراج: فمما لا شك فيه أن الصور المحسوسة تلعب دوراً بارزاً ومهماً في التربية والتأثير في الإيمان والسلوك الإنسانيين، ولذا عندما يتأمل الإنسان في الروايات التي ذكر فيها النبي (صل الله عليه وآله وسلم) مشاهداته من الجنة والنار، وهي مشاهدات حسّية عينية، فإن ذلك سوف يؤثر تأثيره البليغ في الانضباطية إيماناً وسلوكاً عند الإنسان المسلم الملتزم، خاصة أن الناقل لتلك المشاهد المرعبة والمخيفة هو النبي الإعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) الصادق المصدّق على لسان رب العزة جل جلاله.
لهذا نجد أنه من الضروري لكل مسلم أن يتأمل في حادثة " الإسراء والمعراج " لكي يحصل على اليقين بأن ما سوف يلاقيه لا مفر منه ولا مهرب، لعل ذلك يكون له دور في تربية الإنسان المسلم التربية الرشيدة الواعظة التي يلتزم فيها بما أمر الله ونهى حتى تكون أهلاً للوقوف غداً بين يدي الله عزوجل، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.