الأساس الشرعي لتبادل الأسرى والدلالات السياسية والمعنوية
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2974
ففي هذه الحالة ما هو تكليف المسلمين تجاه أولئك الأسرى سواء أكانوا أحياءً أو أمواتاً أو جرحى؟ هل يتخلّى المسلمون عنهم؟ أو يجب السعي لإنقاذهم؟ وعلى فرض وجوب إنقاذهم، فهل يكون ذلك من خلال القتال المباشر؟ أو العمليات الأمنية الخاصة؟ أو من خلال مبادلة أولئك الأسرى بما يقابلهم من أسرى العدو لدى المسلمين؟ أو من خلال بدل مالي أو عيني يدفع للعدو مقابل تحريرهم؟.
وممّا لا شكّ فيه أنّ تخلّي المسلمين عن إخوانهم من الأسرى أمرٌ ليس بواردٍ على الإطلاق، لأنّ المسلم له احترامه وله قيمته الإنسانية الذاتية، وله قيمته الإيمانية والروحية، وليس من المعقول أن يتعامل الإسلام معه بطريقة اللامبالاة، خصوصاً إذا كان أولئك الأسرى قد قاموا بواجبهم على الوجه الأكمل تجاه دينهم وأرضهم وشعبهم، وبالأخص إذا كانوا شهداء أو جرحى, وقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من استأسر من غير جراحة مثقلة فليس منا)، وكذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من استأسر من غير أن يغلب، فلا يُفدى من بيت مال المسلمين، ولكن يُفدى من ماله إن أحبّ أهله).
والخياران الثاني والثالث أي "القتال المباشر" أو "العمليات الأمنية" لتحرير الأسرى، فهذا إنّما يتمّ مع وجود المصلحة القوية في مثل هذه الخيارات، أو مع وجود ضمانات النجاح، وأن يكون ذلك بإذن أولياء الأمر.
ويبقى أمامنا الخيار الرابع وهو "المبادلة"، وهنا تدلّ النّصوص على أنّ الدولة الإسلامية مُلزمة بتحرير أسراها بواسطة دفع المال للعدو، وهذا ينتج عنه وفق "مفهوم الأولوية" أنّه إذا كان لدينا أسرى للعدو أحياءً كانوا أو أمواتاً بحيث نتمكّن من تحرير أسرى المسلمين عبر مبادلة هؤلاء بالمسلمين من دون دفع مالٍ من خزينة الدولة، فهذا الخيار يصبح له الأفضلية حينئذٍ.
وعليه فالمبادلة الأخيرة التي تمّت بين المقاومة الإسلامية من جهة والعدو الإسرائيلي الغاصب من جهةٍ أخرى، حيث تمّ تحرير جثث أربعين شهيداً وستين أسيراً من العدو، وإعطاء العدو مقابل ذلك أشلاء جنوده الممزّقة في عملية أنصارية الفاشلة، وهي من نوع المبادلات التي لها أساس شرعي يجيزها، والمسألة تمّت وفق هذه الضوابط الشرعية.
وأمّا الدلالات السياسية لعملية التبادل فيمكن للإنسان المراقب أن يلحظ هذه الدلالات على النحو التالي:
أولاً: الإعتراف الصريح من الدولة بكلّ أركانها بالمقاومة والتبنّي الرسمي لها، وهذا ما ظهر بوضوحٍ من خلال الإستقبال الرسمي لجثث الشهداء من جهة، وللأسرى المحرّرين من جهةٍ أخرى، وهذه الدلالة لها أبعادٌ مهمّة جداً على مستوى مسيرة المقاومة واعتبارها المقاومة الشرعية للشعب والدولة في لبنان، وأنّها ليست حالةً منعزلة عن ضمير ووجدان الدولة والشعب، وينتج عن هذه الدلالة إغلاق ثغرة مهمّة كان العدو الإسرائيلي يراهن عليها دوماً من خلال طرحه بضرورة أن تسحب الدولة في لبنان سلاح المقاومة أو أن تعمل على تصفيتها.
ثانياً: تمتين الوحدة السياسيّة للشعب اللبناني بأسره في مواجهة جهة الإحتلال الإسرائيلي بعد أن كان هذا العدو قد استطاع في مرحلةٍ من مراحل الصراع معه أن يعطي صورة غير سليمة عن الواقع اللبناني وأنّ هناك قسماً من هذا الشعب لا يؤيّد المقاومة ولا يدعم جهادها وقتالها ضدّه، وهذا ما تمّ استقراؤه من خلال مواقف المعظم من قيادات الشعب اللبناني بكلّ طوائفه وتوجّهاته السياسية منها وغير السياسية، وهذه نقطة قوّة أخرى للمقاومة تجعلها بعيدةً عن أيّ تصنيف فئوي أو طائفي أو مذهبي وتثبت أنّ المقاومة إنّما تعمل لصالح الوطن كلّه لا لصالح فئةٍ خاصّة منه.
ثالثاً: جذب انتباه القوى السياسيّة الكبرى في العالم وعلى رأسها أمريكا من خلال عملية التبادل أنّ إسرائيل هي الدولة الغاصبة والمعتدية وأنّ على تلك القوى أن تعمل على إخراج إسرائيل من أرضنا، وأن تطلق كلّ ما بقي لديها من الأسرى والشهداء الموجودين في سجونها لأنّهم كانوا يقاتلون دفاعاً عن أرضهم وعزّتهم، وليسوا إرهابيين كما تحاول إسرائيل أن تصوّرهم للعالم، كما لفتت عملية التبادل إلى أنّ القتال الذي يقوم به الشعب اللبناني هو قتالٌ مشروع موافق للقوانين الدولية في هذا المجال وليس خارجاً عن إطار الشرعية الدولية وحقّ الإنسان في الدفاع عن أرضه.
وأمّا الدلالات المعنوية فهي في هذا المجال كثيرةٌ جداً ومهمّة لا للشعب اللبناني فقط، بل للعرب جميعاً وللمسلمين أيضاً، ويمكن تحديد الدلالات المعنوية بما يلي:
أولاً: زرع الأمل الكبير بأنّ تحرير المتبقّي من الأسرى والشهداء أمرٌ ممكن الحصول في أيّة لحظة بفضل جهاد المقاومة المستمر والمتواصل، ومن المعلوم أنّ هذه الدلالة تعطي القوّة للمجاهدين في أنّهم إذا وقعوا بيد العدو فإنّ هناك من سيعمل بصدقٍ وإخلاص على تحريرهم وإعادتهم، وهذا الأمل يخفّف بالتالي من معارضة بعض المقربين من المجاهدين الذين قد يمانعون أحياناً في ذهاب أبنائهم للجهاد والقتال ضدّ إسرائيل.
ثانياً: تصغير صورة العدو الإسرائيلي بنظر الشعب اللبناني وأنّه عدوّ كغيره قابل للهزيمة وأنّه ليس فوق مستوى الآخرين، وأنّ هذا العدوّ حاضرٌ للتنازل والقبول بشروط الآخرين عندما يرى أنّه لن يتمكّن من الوصول إلى أهدافه إلاّ عبر هذا السّبيل.
ثالثاً: إحياء الأمل عند أهلنا من أبناء الشريط الحدودي المحتل بأنّ زمن التحرير قد صار قريباً جداً لأنّ المقاومة التي استطاعت أن توصل العدو إلى مرحلةٍ من الإرباك العسكري والأمني والسياسي والإجتماعي داخل الكيان الغاصب، لم تترك له إلاّ خيار الإنسحاب من أرضنا خائباً ذليلاً منكسراً، وهذا ما نكاد نسمعه يومياً من مسؤولي ذلك الكيان سياسيين كانوا أو عسكريين.
رابعاً: إستنهاض الروح الثورية والجهادية لدى المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً، وبالتّحديد لدى أبناء الشعب الفلسطيني اليائس والمحبط بعد خمسين عاماً على تهجيره بالقوّة من أرضه، فذلك الشعب وجد أمله في المقاومة، وبدأ يخطو خطوها في مواجهة العدو الغاصب، ولم يعد ينتظر أحداً من القادة والزعماء العرب والمسلمين، ولم يعد يراهن على القوى الكبرى والمؤسسات العالمية من أجل تحرير أرضه وانتزاع حقّه من الغاصب المحتل.
خامساً: أنّ العدو الإسرائيلي أضعف من أن يكون مؤثّراً في ساحاتنا ومجتمعاتنا، فإذا كان الأسر للمجاهدين لم يستطع أن ينال من عزائمهم وإراداتهم وهم في سجون العدو، فهو بالتالي ينبغي أن يكون أعجز من حيث الفاعلية على من هم خارج إطار سجونه ومعتقلاته، وهذا ما يزرع القوّة والإرادة والعزيمة عند من يرغبون بقتال ذلك العدو من جهة، ويجعلهم أقوياء أشدّاء على ذلك العدو الضعيف العاجز من جهةٍ أخرى.
وفي ختام هذه المقالة نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنّ على المجاهدين بالصبر في ساحات المواجهة، وأن يشفي صدورهم بالنّصر على العدو لتعود الأرض إلى أهلها وأصحابها المشتاقين إليها المنتظرين لحظة العودة إليها لاحتضانها وتقبيلها.
والحمد لله رب العالمين