دور الفكر في حياة الأمم
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3439
بانهزام تلك الأسس التي تعتمد عليها وينهزم معها أيضاً كلّ ما عملت على إيجاده من قواعد للسلوك أو قوانين للتعامل لتحلّ محلّها شريعة الغالب الذي استطاع أن يحلّ محلّه في السيطرة، وهكذا سجّل لنا التاريخ من حياة الكثير من الأمم من هذا النوع بحيث صارت ذكرى من ذكريات التاريخ وأثراً في الماضي.
2 ـ إنّ الفكر القائم على التعامل مع قضايا الناس بواقعية بحيث لا يعدهم بالحلول السحرية أو التعجيزية إنما ينطلق من تعامله مع الإنسان وقضاياه من خلال موقعيّته المميزة في هذا الكون، فيحترم الإنسان وكرامته وتوجّهاته ويسعى ليحافظ على وجوده من خلال كلّ تشريعاته ومبادئه، ويعطي الحلول الواقعية لمشاكل الناس والأفراد وينظّم العلاقات بين الإنسان ونفسه ومجتمعه والأشياء من حوله، إنّ مثل هذا الفكر هو الأولى والأجدر بالإحترام والتقدير وهو الأقدر على البقاء في حياة الناس، لأنّهم لن يكونوا معه كالمتعارضين اللذين لا يمكنهما أن يجتمعا، بل سينظر الناس إلى مثل هذا الفكر النيّر المتحرّر القوي على أنّه هو الذي يكمل شخصيّتهم ويحقّق لهم معنى وجودهم، لأنّه لا يحاول أن يفرض عليهم ما لا قدرة لهم عليه، ولا يعمل على أن يسلب منهم القدرة على الحركة نحو التقدّم والتطوّر، وهو الذي يحثهم على التحرّر من أسر العادات والتقاليد للإنطلاق بفكرهم لاستغلاله فيما يعود عليهم بالمنفعة.
3 ـ من هنا فإنّ مثل هذا الفكر يعتبر هو الفكر الأصيل الذي لا ينطلق في حركته على صعيد الواقع من خلال الرهبة أو الخوف من فكر الآخرين، ولا يحاول أن يفرض نفسه على حياة الناس بالبطش والقوّة، بل يسعى إلى الدخول لحياة المجتمع من بابه الواسع، أيّ من باب الإقناع والإقتناع بلا ممارسة أيّ ضغوطات معنوية أو جسدية، من أجل أن يتحوّل في حياة الناس إلى ممارسةٍ تنطلق من خلال إيمان الفرد بحدّ ذاته من دون إكراه أو إجبار، ليشعر الإنسان بأنّه يبدع شيئاً من ذاته، وينطلق من خلال قناعته الشخصية، التي لا شكّ أنّها ستتحوّل عنده إلى طاقةٍ يستغلّها في سبيل الوصول إلى الأهداف التي يحدّدها له ذلك الفكر الذي آمن به وانطلق منه.
ولهذا نجد أنّ أصحاب الفكر المنحرف، الذي لا امتداد له في حياة الأمم التي يحكمها لعدم قناعة تلك الشعوب به، يحاول أن يفرض جواً من الإرهاب والتسلّط والديكتاتورية من أجل أن تعيش الناس الخوف والرعب من أيّ محاولة للتخلّص من سيطرة تلك القوّة التي تستند إلى ذلك الفكر المنحرف وتعمل على إقناع الآخرين به بالرغبة أو الرهبة، إنّ أمثال هذا الفكر لن يستطيع أن يحقّق للإنسان آماله ولن يعينه على تحقيق طموحاته، لأنّه يسلب من الإنسان أهم العناصر المقوّمة لشخصيته وهي حرية الإختيار والإنتقاء ليتحقّق الإقتناع الذاتي الذي يعتبر المحرّك الأول للطاقات الإنسانية والعنصر الأساس لعملية الإبداع والإبتكار.
4 ـ يُضاف إلى ذلك أنّ من أهم عناصر حماية ذلك الفكر الأصيل هو قدرته على امتصاص المستجدات الطارئة على حياة البشرية لإعطائها الحلول المناسبة، وقدرته كذلك على الدفاع عن نفسه والصمود أمام تحدّيات فكر الآخرين الذين يسعون إيضاً إلى الإمتداد في عمق واقع الأمّة، فالفكر الأقدر على البقاء في حياة الناس إنّما هو ذلك الفكر القادر على المناورة والدفاع، ومتمكّن من دحض حجج الآخرين وتفيد مزاعمهم وإسقاط براهينهم، لا بالقوة العسكرية أو الإقتصادية، لأنّ هذه العناصر لا تستطيع هزم الفكر وإنّما بفكرٍ مثله يحاوره ويجادله ويبادله الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان.
فالفكر لا في مجاله التنظيري البحت، أيّ أن يتحوّل إلى ترفٍ عقلي وفكري، لأنّه بذلك يصبح حالة جامدة تعيش في العقول فقط ، ولا تستطيع أن تتعاطى مع الواقع ولا تمس حياة الناس، لأنّ حالة الترف تلك تؤدي إلى حصول حالةٍ من التباعد بين الفكر وبين الواقع الذي يُراد لذلك الفكر أن يحرّكه وينظّمه، ويصبح مثل ذلك الفكر أمراً غريباً عن واقع الحياة، لأنّ الحلول لمشاكل الأمّة لن تكون منسجمة مع ما نعتقده ونؤمن به ممّا يؤدي بالنهاية إلى أن يصبح ذلك الفكر عنواناً لا أكثر ولا أقل يتحوّل في الحياة إلى مجرّد شعارٍ يرفع و راية تنصب من دون أن يكون لها تأثير على واقع الأمة ومصيرها، ولهذا فإنّ قيمة كلّ فكر إنّما تنبع من خلال قدرته على الإمتداد في حياة الأمّة ومدى استطاعته على أن يعيش معها في وجداناتها ومقدار ما يتلائم معها في آلامها وآمالها لكي يستوعب كلّ حركة الحياة بكلّ ما تضجّ به من حركةٍ لإعطائها طابعه المميز ويكسبه الإحترام المطلوب الذي لا يزيد الناس إلاّ تعلّقاً به، وهذا الأمر وحده هو الذي يضمن لذلك الفكر البقاء والإستمرار والتوسّع على حساب الأفكار الأخرى الموجودة على ساحة الأحداث.
6 ـ ونحن كمسلمين موحّدين نعتقد أنّ فكرنا الإسلامي هو وحده الفكر الأصيل الذي يحمل في ذاته كلّ تلك العناصر التي تحدّثنا عنها وهو وحده القادر على أن يضمن للإنسانية المعذّبة سعادتها وهناءها لو اتّخذت منه طريقاً تسلكه وعقيدة تؤمن بها، وقد أثبت هذا الفكر الأصيل قدرته على أن يحافظ على نفسه وأن يدافع عن مبادئه كلّ الشكوك التي أثيرت حوله وحاولت أن تقلّص من امتداداته وتأثيره على حياة المسلمين وغيرهم لأنّه ينطلق من قواعد وأسس غير التي تنطلق منها الأفكار الأخرى لأنّ هذه الأفكار عن الحياة وليدة واقعٍ معيّن يعيشه الإنسان في مناطق تواجده وأماكن تأثيره. فخط صاحب كلّ فكر مناخه وجوّه الذي وُجد فيه وقاس البشرية كلّها على منهاجه وطريقته وحاول إيجاد الفكر الذي اقتنع بأنّه الكفيل بحلّ كلّ مشكلات البشرية، ولهذا جاءت تلك الأفكار ناقصة مبتورة غير قادرة على إعطاء العلاج الناجح، ولا تتمكن من أن تستشفّ المستقبل وهذا بعكس الإسلام الذي هو وحيٌ من السماء لأهل الأرض، السماء التي لا تتعامل مع الناس من موقع التفاصيل، ولا تقسّم الناس إلى درجات في المواطنية والإنسانية، السماء التي تنظر إلى العالم بكلّ شعوبه نظرةً واحدة شمولية، فوضعت لها القانون وأسّست للإنسانية الفكر الذي ينسجم مع كلّ التنوّع والتعدّد للشعوب والعادات والتقاليد، الفكر الإسلامي الذي يحترم الإنسان بقدر تطلّعاته ويزوّده بالقوّة التي يحتاجها من أجل الإستمرار في البذل والعطاء، ويحرّر الإنسان من كثيرٍ من الأوهام والتخيّلات، هو الفكر الذي استطاع أن يستمرّ بقوّة وفعالية منذ نزوله على قلب النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وما زال يلعب دوراً معيّناً في واقع الأمّة ولو لم يكن بالشكل المطلوب في وقتنا الحاضر في كثيرٍ من البلدان الإسلامية نتيجة أوضاع معيّنة عاشتها هذه الأمّة.
7 ـ إلاّ أنّ انتصار الثورة الإسلامية المباركة في هذا العصر استطاع أن يعيد لهذا الفكر حيويته ونشاطه وبدأ يستعيد دوره القيادي والريادي في حاضر هذه الأمّة، وانطلق يحرّر الإنسان المسلم من واقعه المتخلّف الذي يشكّل قمّة المأساة الحاضرة التي تعيشها الأمّة، وبدأ الإسلام يرسم للمسلمين طريق المستقبل الذي ينبغي أن يعودوا إليه ليضمنوا الحرية والكرامة التي افتقدوها طويلا ً عندما نبذوا فكرهم وعقيدتهم وراء ظهورهم، وراحوا يلهثون وراء الفكر المستورد الذي كانت ظروف نشأته ناتجة عن صراعٍ مرير بين التطوّر الذي بدأ يغزو الحياة وبين الكنيسة التي تلزم الناس بالإيمان بكثيرٍ من الأفكار المنحرفة التي لم تثبت أمام النقد البنّاء والموجّه، ممّا أدى في النهاية إلى أن تسقط عن التأثير كلياً واستبعدت عن مجريات الحياة العادية لعدم تمكّنها من اللحاق بركب التطوّر الذي بدأت البشرية تسلكه بعد انفتاح باب العلم على مصراعيه، ومن هنا بدأت مأساة هذه الأمّة الإسلامية التي كانت تعيش الحرمان والجهل والتخلّف فكأنّها قد اقتنعت أو أقنعت أنّ سبيل تحرّرها لن يكون إلاّ باتّباع طريق الغرب للوصول إلى التقدّم والإزدهار ولم يدروا أنّ ذلك كان هو الفخ الذي وقعوا فيه واستطاع الإستعمار وكلّ القوى الإستكبارية في العالم أن يستغلّ ذلك لمصالحه الذاتية طمعاً في إيجاد الأسواق لتصريف بضائعه وإنتاجه وأدّى هذا الأمر بالتالي إلى أن تصبح الأمّة مستعبدة ضعيفة غير قادرة على المواجهة والمقاومة فالثورة الإسلامية المباركة التي انتصرت في إيران واستطاعت أن توجّه ضربةً عنيفة لكلّ مخطّطات الإستعمار الرامية إلى تفريغ الشعوب من فكرها وحضارتها بحيث لن ينتج بالتالي إلاّ شعوباً استهلاكية، لأنّ القوى الإستكبارية التي تملك بيدها أسباب التطوّر المادي لم تعط للشعوب ما تحتاجه لتصل إلى نفس المستوى من الإزدهار والتقدّم، لأنّ ذلك سيؤدي حتماً إلى الكفاية الذاتية التي سينتج عنها توقف الماكينة الصناعية الإستعمارية ونقصان أرباحها وتقليص سيطرتها على سياسة الدول واقتصادياتها. ولهذا نرى أنّه عندما انتفض ذلك الفكر المارد من الزاوية التي حاولوا حشره وحصره فيها وبدأ ينطلق في الحياة من جديد واستطاع أن ينتصر في أكثر من موقع وأن يتقدّم ويثبت صلاحيته على أكثر من صعيد، بدأت الحملات المركّزة على هذا الفكر ساعية لتضييق الخناق عليه ثانية لتعيده إلى الحالة التقزيمية التي استطاعوا أن يحشروه فيها عقوداً من الزمن، ولهذا بدأنا نرى وسائل الإعلام الإستعمارية بشكلٍ عام تركّز هجومها على هذا الفكر متّهمة إياه بأنّه يدعو أتباعه إلى الإرهاب وإلى سفك الدماء بسببٍ وبدون سبب وينبغي ضرب القوى التي تحتضن هذا الفكر وتؤمن به إذا أريد لعالمنا أن يعيش مرتاحاً ناعم البال، إنّ كلّ هذه الحملات المقصود منها التشويه لن تخيفنا وترهبنا من أجل أن نتنازل عن الأهداف التي حدّدها لنا فكرنا الإسلامي ألا وهي الوصول إلى الحرية الحقيقية لنكون عبيد الله حقاً وصدقاً بدلا ً من أن نكون عبيداً لأمريكا الشيطان الأكبر على هذا الكوكب ومن يتبعها من الشياطين الآخرين الذين يعملون على تنفيذ أوامرها، هنا وهناك في هذا العالم الواسع.
جريدة العهد ـ العدد 105 ـ الجمعة 20 شوال 1406 هـ .