ارتباط العرفان بالواقع
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2059
وهذه العملية بلا شكّ هي عملية شاقّة ومضنية وتحتاج إلى صرف أوقاتٍ طويلة من العمر، وقد لا يستطيع البعض إكمال السير في هذا الطريق، إلاّ أنّه بعد الوصول كان سالك خطّ العرفان يجتنب الحياة العامّة ومن أبرز مظاهر الإجتناب عدم التدخّل في القضايا العامة للأمّة على المستوى السياسي والإجتماعي لأنّ هذه القضايا خارج اهتمامات أهل العرفان، وهي عمل الذين لم يصلوا في تربية نفوسهم إلى ذلك المقام.
ولهذا كنّا نرى التقديس والإحترام للعرفانيين من قبل الجميع، "حاكمين" باعتبار أنّهم مرتاحون من تدخّل هذه الفئة في الشؤون العامّة، و"محكومين" باعتبار أنّ مقام العرفانيين يشكّل مرجعاً مهمّاً للناس على مستوى البركة من خلال التردّد عليهم واستلهام النصائح منهم في القضايا التي تهمّ الأفراد.
إنّ هذا النهج المتعارف للمسار العرفاني قد كان محل الرفض عند الإمام "قده"، وهذا الرفض لم يكن من غير سالكي هذا الخط، وإنّما هو رفض الخبير بهذا المسلك وبكلّ طرقه وأساليبه التي كان مطّلعاً عليها بدقة عكسها في الكثير من خطبه وبياناته التي ينتقد فيها هذا التوجّه السلبي لأهل العرفان، وترك الساحة العامّة للمنافقين والإنتهازيين والوصوليين.
من هنا نراه يقول بوضوح: (يعمدون بخبث وشيطنة إلى الدفاع عن قداسة الإسلام فيقولون إنّ الإسلام وسائر الأديان الإلهية يهتمّون بالمعنويات وتهذيب النفوس والتحذير من المراتب الدنيوية والدعوة إلى ترك الدنيا والإشتغال بالعبادات والأذكار والأدعية التي تقرّب الإنسان من الله، والحكومة والسياسة وفنّ الإدارة مناقض لتلك الغاية وذلك الهدف الكبير والمعنوي... حيث إنّ هذه جميعاً لبناء الدنيا وذلك مناقض لسيرة جميع الأنبياء العظام).
إنّ الأساس الذي انطلق منه الإمام "قده" لسلوكه العرفاني هو ما قاله في وصيته لولده السيد أحمد وهو: ( ما هو أساس نجاة البشرية واطمئنان القلوب هو التحرّر والإنفلات من الدنيا وتعلّقاتها ويحصل ذلك بالذكر الدائم لله...).
إلاّ أنّه "قده" كان يرى أنّ هذه الحالة العرفانية هي التي ينبغي أن تكون في مقام خدمة الدين والأمّة نظراً لمؤهّلات أبنائها وسالكي طريقها، ولذا نراه يستشهد بالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وأنّهم جاهدوا وقاوموا الطغاة من مواقعهم العرفانية فيقول: (سيرة الأنبياء العظام صلى الله عليهم وعلى نبينا وآله، والأئمة الأطهار (عليهم السلام) الذين هم صفوة العارفين بالله والمتحرّرين من كلّ قيدٍ وغل والمتعلّقين بالساحة الإلهية هي القيام... ضدّ الحكومات الطاغوتية فراعنة الزمان، وقد عانوا الآلام من أجل إجراء العدالة في العالم وبذلوا الجهود التي تلقّننا الدروس... وإذا كانت لنا عينٌ بصيرة وأذنٌ سميعة فسنجد فيها ما يفتح أمامنا الطريق... "من أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم").
وكأن الإمام (عليه السلام) يريد أن يضع قواعد للمسلك العرفاني تخالف ما كان عليه، ويقوم عنده على الأسس التالية:
أولاً – التحرّر من كلّ العلائق الدنيوية للإرتباط بالله ارتباطاً صادقاً مخلصاً.
ثانياً – العرفان هو سلوك خطّ الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) أي المرتبط بأصول الشريعة، وليس كلّ تلك الطرق التي ابتكرها وابتدعها الكثيرون ممّن سلكوا هذا الخط.
ثالثاً - إنّ العرفاني هو الذي يسخّر تلك الحالة المعنوية لخدمة الدين والأمّة عبر جهاده بالكلمة واليد ضدّ الإنحراف والفساد، وليس العرفاني هو المنعزل عن الحياة العامّة.
لهذا نرى الإمام "قده" يعطي الميزان والحدّ الفاصل بين الخطّ العرفاني الموافق للإسلام والمخالف له فيقول :(لا الاعتزال الصوفي دليل الإرتباط بالحق، ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد الإنفصال عن الحق، الميزان في الأعمال هو دوافعها. فكثيراً ما يكون العابد والزاهد مبتلى بشرك إبليس وهو يوسع ذلك الشرك بما يناسبه من الأنانية والغرور والعجب والتكبّر وتحقير خلق الله والشرك الخفيّ وأمثال ذلك ممّا يبعده عن الحق ويؤدّي به إلى الشرك. وكثيراً ما يكون المتصدّي لشؤون الحكومة ذا دافع إلهي فيحظى بمعدن قرب الحق كداوود النبي وسليمان النبي (عليهما السلام) وأعلى منهما وأسمى كالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وكحضرة المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء...).
وهكذا فتح الإمام "قده" باب العرفان على الواقع ومزجه به بطريقةٍ إيجابية يسعى فيها العرفاني من موقعه الإيماني إلى الإندماج بالحياة الإجتماعية العامة في محاولة لتصحيح المسار الإنساني واستقامة السلوك نحو الحق المطلق تبارك وتعالى.
-والحمد لله ربّ العالمين –