مسؤولية العلماء
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 4332
من الواضح جداً أنّ الولي الفقيه الذي ينطلق من "ولاية الفقيه" ليجسّدها في واقع حياة الأمّة هو نتاج الخطّ العلمائي العام، هذا الخطّ الذي أُنيطت به مهمّة القيام بأعباء الرسالة الإسلامية من حيث التوجيه والوعظ والإرشاد من جهة، ومن حيث الوقوف والمحاربة والتصدّي للإنحرافات وحملات التشكيك ومؤامرات الأعداء ضدّ الدين والأمّة الملتزمة به من جهةٍ أخرى.
وهذه الموقعية الريادية للخط العلمائي ليست جديدة في حياة الأمّة الإسلامية، وإنّما هي استمرارٌ لتاريخٍ بدأ منذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أوضح هذه الموقعية في العديد من النصوص الواردة عنه، ومن أبرزها في هذا المجال "العلماء ورثة الأنبياء" و"مجاري الأمور بيد العلماء".
وهذا يعني أنّ هذه الفئة التي تصرف أعمارها وطاقاتها في دراسة الإسلام وفهم أحكامه ومعرفة طرق استنباط الأحكام الشرعية لتطبيقها من جانب أبناء الأمّة هي الفئة الأقدر من غيرها على تشخيص مصالح الأمّة ومفاسدها، والأقدر بالتالي على صياغة الحلول بالطريقة التي تحفظ المسار العام للأمّة من السقوط والإنهزام أو التراجع، إلاّ أنّ أداء هذه المهمّة يتوقف على التفاعل والتلاحم من جانب هذا الخطّ العلمائي مع كلّ الواقع القائم إسلامياً وعالمياً حتّى تكون عملية قيادة هذا الخطّ للتحرّك قيادة واعية رشيدة تستطيع أن تلبّي طموحات المسلمين نحو الإندماج في عمق الحركة العالمية مع الحفاظ على الهوية والأصالة معاً.
كما ينبغي لهذا الخط العلمائي – طالما أنّه المؤهّل الأبرز لاستلام زمام الأمور – التمتّع بالمواصفات الإيمانية والأخلاقية الرفيعة والسلوكية المنضبطة بالقيود الشرعية لإشاعة الإطمئنان الذاتي عند الجماهير المسلمة التي تنقاد لهذا الخط التزاماً بالنهج الإسلامي المحمدي، إلاّ أنّ هذه الجماهير تريد أن ترى وتلمس لأنّها لا تعطي الثقة مجاناً، وإنّما تمنحها لمسارٍ عملي تلمس فيه جهاداً وتضحية واستبسالاً في الدفاع عن مصالحها ودينها، وعلى هذا الأساس تمنح الثقة أو تمنعها، كما تتطلّب هذه المهمة الملقاة على عاتق الخط العلمائي المتواصل المستمر مع الجماهير، إذ لا يكفي حمل قضاياها من دون ذلك، فالتواصل يؤمّن الإحتكاك المباشر بالقضايا التي تهمّ حياة الناس وتساعد على فهم الواقع بنسبةٍ أكبر من المصداقية والشفافية التي تعين كثيراً في تحديد نوع العلاج وطريقته.
من هنا نجد أنّ الإمام الخميني "قده" يعتبر هذه الأمور التي ذكرناها القاعدة الأساس التي يجب على العلماء والفقهاء أن يسيروا عليها لكي لا تفلت الأمور من الزمام ولتبقى مسيرة الأمة منضبطة ومحكومة للشرع الإسلامي المقدّس.
ولهذا نرى التأكيد المتواصل من الإمام "قده" على ضرورة أن تتنبّه الحوزات العلمية – التي هي المصدر الأساس لإنتاج العلماء والمبلِّغين وقادة الفكر والرأي الدينيين – لهذه الأمور وتسعى لبناء العلماء القادرين على القيام بهذه المهام الصعبة والمكلفة من ناحية الجهد والتعب المبذولين للتمتّع بالمؤهلات المطلوبة علمياً وسلوكياً.
وقد ترك لنا الإمام "قده" في هذا المجال نصوصاً كثيرة يمكن للمرء أن يرجع إليها لتكوين صورة شبه تفصيلية عن نظرته إلى دور الحوزات والعلماء بشكلٍ أساس ومنها: (يجب أن يتحلّى المجتهد بالبراعة والذكاء والفراسة لقيادة المجتمع الإسلامي الكبير، وحتّى غير الإسلامي، وبالإضافة إلى الخلوص والتقوى والزهد... ينبغي أن يكون واقعاً مديراً ومدبراً) وكذلك يقول "قده" :(ما لم يكن للروحانية حضورها الفعّال في جميع المسائل والمشكلات فلن تستطيع أن تدرك أنّ الإجتهاد المتعارف لا يكفي لإدارة المجتمع)، وكذلك :( يجب أن يكون المجتهد محيطاً بأمور زمانه... ومعرفة كيفية مواجهة حيل وتزويرات الثقافة المسيطرة على العالم، امتلاك البصيرة والرؤية الإقتصادية، معرفة السياسات وحتّى السياسيين وتعليماتهم التي يملونها... كلّ ذلك من خصائص المجتهد الجامع)، وكما نرى بوضوحٍ من هذه النصوص كيف ينظر الإمام "قده" إلى العالم القائد الولي للمسلمين، ومن نصوصه في مجال الدعوة إلى الأخلاق عند العلماء: (ومن أهم وأسمى العلوم التي يجب تعميم تدريسها ودراستها هي العلوم المعنوية الإسلامية، كعلم الأخلاق وتهذيب النفس والسير والسلوك إلى الله – رزقنا الله وإياكم ذلك – ففيه الجهاد الأكبر).
وفي مجال التواصل مع الجماهير لإرشادها وحمايتها يقول الإمام "قده": (الذين – يعني العلماء – واصلوا الزحف حتّى اكتشاف حقيقة التفقّه، وصاروا بذلك منذرين صادقين لقومهم وشعبهم، تشهد بصحة كلّ فقرة من حديث صدقهم قطرات دمهم والقطعات المتشظّية من أبدانهم) ،وكذلك :(منذ مئات السنين وروحانية الإسلام سند المحروسين، ولقد ارتوى المستضعفون دائماً من كوثر المعرفة الزلال للفقهاء الأجلاء...)، وكذلك :(إنّ الروحانيين الملتزمين بالإسلام تقيّدوا دائماً عبر التاريخ الطويل وفي أقسى الظروف.... بتعليم الأجيال وتربيتها وهدايتها...).
من كلّ ما سبق يمكن استجلاء نظرة الإمام "قده" إلى الفقه الإسلامي وهي:(أنّ الفقه هو النظرية الواقعية والكاملة لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللحد) ووظيفة العلماء هي استنباط تفصيلات تلك النظرية لكلّ مفردةٍ من مفردات الحياة وفي أيّ مجالٍ من المجالات التي تهمّ الحياة البشرية ومن دون أيّ استثناءٍ كان.
ولهذا يمكن القول أنّ مسؤولية العلماء والحوزات لها حيّز مهم وكبير في خطّ الإمام "قده" نظراً للموقعية والدور الأساسيين لهذا الخط في حياة الأمّة، وما يمكن استخلاصه من نتائج مسؤولية العلماء هو التالي:
أولاً: الوعظ والإرشاد والتبليغ والدفاع عن الإسلام والمسلمين عقائدياً.
ثانياً: التواصل المستمر مع الجماهير والإحتكاك بها دائماً بلا انقطاع.
ثالثاً: حمل قضايا الإسلام والأمّة في مواجهة الظالمين والمستبدين.
رابعاً: التحلّي بالمواصفات الأخلاقية والسلوكية الممدوحة من الله والناس.
خامساً: الإستيعاب الجيد للحركة السياسية العالمية لفهم كيفية التعامل معها.
سادساً: عدم الرضوخ أمام الظروف الصعبة ولو أدّى ذلك إلى القتل والإستشهاد.
وينبغي أن نلفت النظر أخيراً إلى أنّ هناك تفصيلات كثيرة للإمام "قده" حول مسؤولية العلماء إلاّ أنّنا قصرنا الكلام على البعض الأساسي فقط.
والحمد لله ربّ العالمين