أنوار حياة أمير المؤمنين
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3376
تلك الأدوار التي تكلّمنا عنها هي التي تمثّل العناوين البارزة لحياة أمير المؤمنين (عليه السلام) الحافلة بالعطاء من دون حساب في سبيل العقيدة التي آمن بها وانطلق منها، ففي المرحلة المكية من مسيرة الدعوة كان الأول ممّن آمن برسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان ملازماً له كظلّه يتعلّم منه ويتربّى على يديه الكريمتين في بيته، حتى صار والرسالة توأمين لا ينفصلان، فسنوات تلك المرحلة كانت مهمّة جداً للإمام (عليه السلام) لكي يكتسب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ ما كان يأتيه من الوحي، أي أنّها كانت مرحلة الإستعداد من خلال تفعيل القابليات والطاقات الكامنة في نفسه الشريفة، ليكون مهيّئاً تماماً للدور الكبير الذي ينتظره في مستقبل الدعوة المباركة وليتحمّل المسؤولية في الدفاع عنها بوجه كلّ القوى الطاغوتية الحاكمة في المجتمع المكي الجاهلي آنذاك، وتجلّى ذلك الإستعداد بمبيته على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما اطمئنّ بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سينجو من المؤامرة التي تدبّرها قريش لقتله وإفشاء دمه بين القبائل حتى لا يستطيع أحد المطالبة بدمه الشريف فيما لو تمّت تلك المؤامرة الدنيئة.
ويهاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة ليبدأ بتكوين أول مجتمعٍ قائم على أساس الشريعة الإسلامية لترى الناس الفوارق الواضحة بين الحياة القائمة على أساسٍ من موازين الله، وبين نمط الحياة الجاري على ضوء القوانين القبلية والعشائرية، وهنا يبدأ الدور الكبير الذي قام به الإمام (عليه السلام) في الدفاع عن الدولة الإسلامية الوليدة التي لا بدّ لها من أن تبقى وتستمر، لتصبح البديل عن كلّ ألوان الفساد والإنحراف التي كانت تسود المجتمعات الجاهلية، وبرز ذلك الدور المهم في المعارك التي خاضها المسلمون وكان للإمام (عليه السلام) نصيبٌ كبيرٌ فيها ودورٌ عظيمٌ أيضاً، فمن بدرٍ إلى أُحد إلى الأحزاب وخيبر وحُنين، تلك المعارك التي برز فيها الإمام (عليه السلام) كقوّةٍ لا تُقهر، وتستطيع أن تهزم جحافل الكفر والشرك، وقد امتدح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الشجاعة النادرة كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الأحزاب : "إنّ ضربة علي (عليه السلام) تعدل عمل الثقلين" ،أو كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم خيبر :"لأعطينّ الراية غداً رجلا ً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه" .
هذه المرحلة المدنية من عمر الرسالة التي امتدت من زمن الهجرة إلى وقت رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ربّه راضياً مرضياً، هي المرحلة التي برز فيها الإمام (عليه السلام) وظهرت فيها مؤهّلاته القيادية الرسالية التي أهّلته ليكون خليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤتمن على استمرارية الرسالة قوية فاعلة تمارس دورها الإلهي في ترسيخ الطريقة الإسلامية للحياة، حتى توجت هذه المرحلة بالبيعة الشهيرة التي تمّ فيها تنصيبه (عليه السلام) وليّاً للمسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبايعه فيها المسلمون جميعاً حتى ورد أنّ عمر بن الخطاب قال له : "بَخٍ بَخٍ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة" .
ولو قدّر للأمور أن تسير بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما خطّط لها في حياته لعاشت الإنسانية جمعاء أعدل حكمٍ في تاريخها الطويل المليء بالمآسي التي كان الحكّام المنحرفون من الأسباب الرئيسية لحصولها، إلاّ أنّ العصبيات والحزبيات الضيّقة وتغليب المصلحة والمنفعة الشخصية على المصلحة العليا للإسلام والمسلمين لعبت دوراً خطيراً واستطاعت أن تحرم الولي الشرعي من حقّه الإلهي بالخلافة واستلام زمام الأمور، وإذا بالإمام صاحب التاريخ المشرق والمشرّف معاً يُساق بالإكراه ليبايع الذين ابتزوه حقّه ونحّوه عنه جانباً وهنا في هذه المرحلة الطويلة جداً من حياة الإمام (عليه السلام) تبرز القيم والمثل الإسلامية في نكران الذات وتجاوزها والضغط عليها حفاظاً على الشريعة وتغليباً للمصلحة الإسلامية على كلّ ما عداها، وقام الإمام (عليه السلام) في تلك المرحلة بدور الناصح والمقوّم والمرشد للذين توالوا على منصب الخلافة الذي هو حقّه دون غيره من الناس الذين تطاولت أعناقهم إليها، حتى اضطرّ الخليفة الثاني للإعتراف بذلك الدور البنّاء النابع من النفس الكبيرة التي تتعالى عن زخارف الدنيا وبهرجها في سبيل العقيدة بقوله :"لا أبقاني الله لمعضلةٍ ليس لها أبا الحسن". أو في العبارة الأخرى الواردة عنه: "لولا علي لهلك عمر"، وبرز دور الناصح الأمين بشكلٍ واضح أثناء خلافة عثمان كذلك الذي قرب إليه بنو أمية واستقدم إلى المدينة مروان بن الحكم طريد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضارباً بذلك عرض الحائط بحكم من أحكام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ،هذه القضايا كلّها تكشف عن نفس تعيش المسؤولية الرسالية بأصفى حالاتها وأشكالها امتثالا ً لأمر الله عزّ وجلّ ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال يوماً :"ستقاتل بعدي القاسطين والناكثين والمارقين" ، أيّ قلبٍ صبور ونفسٍ عظيمة كان يحملها أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان يرى حقّه أمام عينيه نهباً وألعوبة بأيدي أناسٍ يتقاذفونها على مرأى منه ومسمع، حتى جسّد لنا الإمام (عليه السلام) ذلك في بعضٍ من خطبه الموجودة في نهج البلاغة حيث يعبّر عن الآلام التي كانت مكبوتة في نفسه ويتعايش معها ويتحمّل آذاها وضررها النفسي في سبيل بقاء الراية الإسلامية عالية خفّاقة.
وحصل مع عثمان ما حصل لما جنته أفعاله البعيدة عن طريقة الإسلام، ويقتل في ظروف ثورة عارمة قامت بها مجموعات تمثل معظم بلاد المسلمين احتجاجاً واستنكاراً، ولا يجد المسلمون في تلك الفترة غير علي (عليه السلام) ليكون القائد لمسيرة الأمّة، بعدما عانت الكثير من الإجحاف والحرمان والتفاضل في زمن من كانوا قبله، ومع هذا نجد أنّ الإمام (عليه السلام) أراد أن يترفّع عن قبول ذلك المنصب الذي اشرأبّت إليه الأعناق بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجيب من أرادوا مبايعته: "لأن أكون لكم وزيراً خير من أن أكون لكم أميراً" ،ولكن مع هذا لم يكن هناك من هو أكثر أحقية من الإمام (عليه السلام) لاستلام المنصب الخطير الشأن في حياة الأمّة وعاد الحق إلى صاحبه بعد طول غياب أو تغييب وعن جدارة واستحقاق عاليين لا يستطيع أحد أن يجد مغمزاً أو ثغرة ينفذ منها لمحاولة عرقلة ذلك الأمر، ويبدأ الإمام (عليه السلام) بتطبيق سياسات العدل الإسلامية على مستوى المال والولاة والتقسيم بين الناس، وخيّب آمال البعض ممّن كانوا يراهنون على حصولهم على بعض المراكز أو المناصب ثمناً لمبايعتهم ووقوفهم إلى جانب الإمام (عليه السلام) ممّا دفع بهؤلاء إلى أن يسخّروا زوج النبي عائشة لتجييش الناس ضدّ الإمام (عليه السلام) وهكذا كانت "الجمل" معركة الإمام (عليه السلام) مع الناكثين، وأدّى عزله لمعاوية وهو غير المؤهّل عن ولاية الشام إلى حربٍ ضروس وهي "صفين" معركة الإمام (عليه السلام) مع "المارقين" مع أنّ البعض كان قد أشار عليه بإبقاء معاوية والياًَ لفترة ثمّ يعزله بعد استتباب كلّ الأمور، لكن الإمام (عليه السلام) لا يريد الوصول إلى الهدف الشريف بوسائل غير شريفة ولا يمكن وهو المقول فيه: "علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه كيفما دار" على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقبل أو يرضى بذلك، ثمّ بعد مؤامرة التحكيم التي أُجبر الإمام (عليه السلام) على القبول بها، يخرج البعض من جيشه عن الطاعة بادّعاء أنّ الحكم لله لا للإمام اشتباهاً وخطأ، ممّا دفع بالإمام (عليه السلام) أن يواجه تلك الحالة الشاذة فكانت معركة "النهروان" وهي حربه مع القاسطين ولهذا نرى قول الإمام (عليه السلام) عن الخوارج بأنّه "ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه أو أصابه" .
وهكذا إذن مضت القضايا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي أراد أن يحمل الناس على المحجة البيضاء والصراط المستقيم بأوضح الصور وأصفى الأساليب، إلاّ أنّ النفوس المريضة التي لا تقوى على أن تعيش مع الحق لفساد باطنها كانت تحرّك المسائل ضدّ سياسة الإمام (عليه السلام) واستطاعت يد البغي والظلام من أن تمتد في نهاية الأمر لتضرب الرأس الشريف وتدميه فتخضّب اللحية الشريفة من الدم الزكي في بيتٍ من بيوت الله، وفي شهر الله، لتتوقف تلك الحياة التي كانت مليئة بالعطاء والخير من أجل سعادة الإنسان وإنقاذه من الضلال والإنحراف والتيه في ظلمات الشهوات والملذات الشيطانية .
"والحمد لله ربّ العالمين"