التلفزيون: أخطار، اقتراحات وحلول
- المجموعة: مقالات اجتماعية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 1619
من الواضح جدا" أن التطور الهائل لوسائل الاتصال والتواصل مع البشر قد وصل إلى الحد الذي جعل من العالم كله قرية صغيرة, بحيث يكفي المرء أن يستعمل وسيلة منها لمعرفة كل ما يجري من حوله على امتداد ساحة الكرة الأرضية. ولا شك أن هذا التطور قد ساعد كثيراً في مسألة انفتاح الشعوب وثقافتها على بعضها البعض بنحو أغنى حب المعرفة عند جميع البشر، نظراً للإمكانات الكبيرة التي تملكها وسائل الاتصال تلك, فصار الإنسان قادراً من خلالها على الإطلاع على حضارات الشعوب والأمم ومعرفة حضاراتها بما تحتويه من عادات وتقاليد ونظريات وعقائد وغير ذلك كثير, مما جعل من كل فرد ما يشبه الموسوعة الثقافية.
وقد ساعد على هذا الانفتاح المؤدي إلى ذلك الكم الهائل من المعرفة كل وسائل الإعلام, من الجريدة اليومية, إلى المجلة الأسبوعية, إلى الإعلام المرئي والمسموع على توزعه بين الإذاعة والسينما والفيديو والتلفزيون, وأخيراً وليس آخراً "الإنترنت" المعتبرة اليوم كأحدث وسيلة إعلامية تملك قدرات كبيرة جداً على نقل المعلومات وتبادلها بين البشر. إلا أنه مع غنى وتنوع وسائل الاتصال في العصر الحاضر يبقى لوسيلة واحدة منها أهميتها وخطرها في آن معا وهي "التلفزيون", هذه الوسيلة التي يبدو أنها الأكثر شيوعا وانتشارا في العالم, خصوصاً وأنه لا يحتاج من الإنسان في الحد الأدنى الخروج من بيته, بينما ينقل العالم إليه بكل ما يضج به من حركة ونتاج على مختلف المستويات مضافاً إلى وجود إغراءات متنوعة جعلت من"التلفزيون" بهذا الانتشار, ومنها تنوع محطات البث وتعددها, وفيها اختراع "اللاقط" الذي يسمح لهذه الوسيلة بالتقاط أكبر عدد ممكن من قنوات البث من دول مختلفة من العالم, ومنها سعة استيعاب هذه الوسيلة لقنوات لتصل إلى العشرات على الأقل.
ونظراً للانتشار الواسع للتلفزيون, فقد صار هدفاً مهماً للكثير من المتمولين والمستثمرين الساعين إلى الكسب المادي السريع, مضافاً إلى المنافع التجارية والسياسية التي يجنيها أصحاب تلك المحطات التلفزيونية, ولذا نجد أن البعض يغامر بإنشاء محطات قد تصل كلفتها المادية إلى العشرات إن لم يكن أحياناً إلى مئات ملايين الدولارات.
وبما أن الربح المادي هو الغاية من التلفزيون, فقد بدأ ممن يملكون هذه المحطات بسلوك كل الأساليب التي تشد المشاهد وتجذبه إلى مشاهدة برامجها, وقد أدى كل هذا إلى استعمال كل وسائل الإغراء والتشويق, بدءاً من الاستغلال البشع للمرأة, وإظهارها كأداة ترويج وتسويق للسلع التجارية, حيث صارت المرأة عنواناً رئيساً في سوق الإعلانات التجارية المعروضة في التلفزيون, وخصوصاً مع مشاهد العري الفاضح الكاشف لأغلب مفاتن المرأة التي تغري المشاهد بإعادة النظر وحضور تلك المشاهد مراراً وتكراراً, وصولاً إلى المناظر الفاضحة إلى تحتويها الكثير من البرامج المعدة للعرض التلفزيوني والمعتمدة أساساً على استغلال جسد المرأة بشكل يتنافى مع قيمتها الإنسانية, بحيث صارت المرأة من خلال كل ذلك رمزاً للإثارة والجنس والفسق والفجور, وهذا ما يشجع مع التمادي فيه كما هو حاصل على الترويج للانحراف الأخلاقي والسلوكي عند المشاهد, خصوصاً من هم في سن المراهقة والشباب وكذلك نرى البرامج المتضمنة لمشاهد العنف والقتال وسفك الدماء بمبرر أو بدون مبرر, وكل ذلك سعياً للجذب ولفت أنظار الناس لمتابعة تلك البرامج التي قد لا تتضمن في الكثير من الأحيان أي توجيه أخلاقي أو ديني أو وطني, إن لم نقل بأنها تتضمن توجيهاً غير مباشر, بل مباشراً أحياناً نحو العنف بما هو عنف كوسيلة من وسائل الحصول على ما يريده الإنسان ويتمناه, وكذلك ما نشاهده من البرامج اللهوية والعبثية التي لا تسعى سوى الى قتل وقت الناس وإلهائهم بطريقة لا تعود عليهم بأي نفع على الإطلاق, مع ما قد يلتقطه الإنسان من عادات وتقاليد غير مألوفة في مجتمعه ومحيطه, وكذلك ما نلمسه من عرض لبرامج قد تعرض مشاكل من نوع معين تعيشها مجتمعات معينة على أنها مشاكل لشعبنا ومحيطنا مع أن هذا الأمر قد يكون مغايراً للواقع المعاش لأن هذه المشاكل ليست موجودة في مجتمعنا كظاهرة من الظواهر العامة وإن كانت موجودة بنسبة قليلة جداً قد يكون من الخطأ التعرض لها بمثل تلك البرامج التي توحي بعكس ما هو الموجود.
وفي مقابل كل ذلك الكم السلبي من البث التلفزيوني, لا نجد إلا القليل من البرامج التربوية أو البرامج الهادفة الذي يكاد أن يضيع في زحمة تلك الكثرة, والتقليل من هذه البرامج له سببه الواضح وهو"عدم جاذبية مثل هذه البرامج للمشاهد وعدم تفاعله معها بالنحو الذي يشجع محطات التلفزيون على الإكثار منها".
بعد هذا العرض الموجز يمكن القول إن للتلفزيون بوضعه الحالي من جهة برامجه المعروضة على الناس يتضمن الأخطار التالية:
أولاً: تشجيع الناس على الإنفلات الأخلاقي والتحلل من الضوابط الإجتماعية التي هي صمّام أمان لإتزان حياة الناس في مجتمعها وأماكن وجودها.
ثانياً: التشجيع على العنف وسفك الدماء للوصول إلى ما يريده الإنسان ويحتاجه، إما تقليداً لما يراه في التلفزيون، أو لضعفٍ في شخصية المشاهد تدفعه إلى تغطية ذلك بسلوك العنف كوسيلة من وسائل إثبات الوجود.
ثالثاً: تكوين شخصية ذات ثقافة غير متجانسة نظراً لما قد يؤثره التلفزيون في شخصية المشاهد الذي يرى ويسمع العديد من الأشياء التي قد تلعب دوراً في تكوينه العلمي أو النفسي أو حتى السلوكي، مع ما تنتجه مثل تلك الشخصية من قلق وإرباك في نفس صاحبها أو في حركته.
رابعاً: التقليل من التوجه نحو الثقافة الأصيلة التي ينبغي على الإنسان أن يتلقنها في حياته بدءاً من سن مبكر لتخصينه من الإنحرافات التي قد ينجر إليها بسبب التوجيه العشوائي الذي يؤثره التلفزيون غير الهادف وغير الملتزم بأخلاقيات المجتمع وضوابطه السلوكية والعقائدية، ولا شك أن ذلك خطر على الأجيال المستقبلية التي قد تكون حاضرة لتلقي ثقافات أخرى تنتج عادات وتقاليد بعيدة عن واقع المجتمع وحضارته وتراثه وسلوكيّاته.
وانطلاقاً من كل ما سبق فإن الحلول المقترحة لا بد من أن تكون ناظرة إلى تلك الأخطار لإزالتها أو للتخفيف من تأثيراتها السلبية قدر الإمكان خصوصاً إذا التفتنا إلى أن الشعب اللبناني بغالبيته هو من الشعوب المتدينة وذات السلوك الاجتماعي المنضبط بنسبة كبيرة، والذي قد يشكّل الفلتان في وسائل الإعلام المرئي منه والمسموع الى عواقب وخيمة على هذا المجتمع وأجياله الناشئة.
والحلول المقترحة تنقسم الى قسمين هما:
الأول: ما ينبغي على الدولة أن تفعله في هذا المجال.
الثاني: ما ينبغي على مؤسسات المجتمع الأهلي وبالتحديد المؤسسات الدينية.
أما "الأول" فهو يتمثل في أن تقوم الدولة بخطوات عديدة تمنع من خلالها أن يتحول البث التلفزيوني إلى وسيلة إفساد وتدمير للقيم والمثل الإنسانية والاجتماعية , وذلك من خلال ما يلي:
أ_ التشدد في شروط منح الترخيص للبث من حيث المحافظة على التوجّهات الأخلاقية والدينية والوطنية، وفرض عدد معين من ساعات البث على محطات التلفزة للبرامج الهادفة.
ب_ إنشاء لجان لمراقبة كل الإعلام المرئي المستورد من الخارج والذي يشكل النسبة الغالبة من المعروض على محطاتنا المرئية بحيث يتم حذف كل ما يمكنه أن يشكل خطراً على التوجه العام للمجتمع اللبناني المنضبط بغالبيته دينياً وأخلاقياً.
ج_ مراقبة الإنتاج التلفزيوني الداخلي وجعله صورة تعكس واقع هذا المجتمع وتعالج مشاكله المعاشة معالجة موضوعية، ورفض الإنتاج المشبع بالتقليد الأعمى الذي يتم فيه إظهار هذا المجتمع على غير حقيقته وصورته الواقعية.
د_ إنشاء هيئة وطنية للإعلام تدرس السّاحة اللبنانية بتنوعها العقائدي وتوحدها الأخلاقي والتربوي والسلوكي وتضع الخطة الإعلامية المتناسبة مع الساحة وتفرضها على كل وسائل الإعلام المرئي في لبنان مع رعاية التعدد الثقافي الموجود.
وأما "الثاني" فهو يتمثل في العديد من الخطوات التالية:
1- عقد مؤتمرات ولقاءات وندوات تبين الأخطار، ويتم نشر حصيلة كل ذلك في مختلف وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب.
2- التركيز على دور الأهل في التقليل من السلبيات والأخطار عبر المراقبة الواعية التي يمارسها الآباء والأمهات على البرامج التي يحضرها أبناؤهم.
3- عقد مؤتمر وطني عام تدعو إليه المرجعيات الدينية وتشارك فيه أيضاً، على أن ينبثق عنه لجنة مهمتها متابعة وضع البث التلفزيوني مع المعنيين في الوزارات والإدارات المختصة.
4- التنبيه المستمر والتحذير من الإنحرافات من خلال الخطب الدينية الأسبوعية التي يمكن اعتبارها من وسائل الدفاع الأساسية عن أخلاقيات المجتمع اللبناني.
5- تأسيس محطات بث تلفزيوني تأخذ على عاتقها تشجيع كل البرامج التربوية الهادفة ونشرها لتكون البديل المناسب عن البث التجاري غير الملتزم بالضوابط الأخلاقية.
6- الضغط الشعبي من خلال المؤسسات التابعة للمجتمع الأهلي على محطات البث من أجل الزيادة الكمية والنوعية للبرامج الهادفة وذلك بالتعاون مع المعنيين في الوزارات المختصة.
ونحن لا ندَّعي في المقام أننا قد استوفينا البحث في المجال، لأن الموضوع من جهة أخطاره ومفاسده هو أكبر بكثير مما نتصور، ولذا تحتاج المسألة إلى تضافر جهود كل الغيارى على مستقبل أجيالنا ومجتمعنا لمواجهة هذا المد الإعلامي المنفلت قبل أن يستفحل الأمر ويصبح مستعصياً على الحل.