حقوق السجين في الإسلام
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3501
وإذا لم يكن هناك قوّة رادعة ينتدبها المجتمع لقمع من يرتكب المخالفات أو الجنايات فإنّ حياة المجتمع ستتحوّل إلى جحيمٍ لا يُطاق، وسيعيش كل فردٍ الخوف والرعب في كلّ يومٍ نتيجة فقدان عناصر الأمان والسلامة، ولذا نجد أنّ كلّ الدول في العالم إسلامية أو غيرها أقرّت وجود القوى الأمنية والعسكرية التي تحمي الحياة المدنية للناس، ليستطيع كلّ فرد القيام بعمله من موقع الأمن والإطمئنان.
إلاّ أنّ هناك نقطة مهمة وأساسية لا بدّ من التوقّف عندها، وهي: (هل أنّ مرتكب المخالفة أو الجناية التي جعلته يستحقّ السجن تجرّده من حقوقه الإنسانية والأخلاقية والأدبية عند حبسه، أو تبقى حقوقه قائمة ومعترفاً بها مع قضائه فترة العقوبة.) وبعبارة أوضح (هل تسقط الحقوق المدنية للسجين أو تبقى محفوظة بطريقة تتناسب مع قضائه للعقوبة في السجن؟).
وهنا عندما نرجع إلى المصادر الإسلامية بنحو إجمالي سوف نتعرّض له بالتفصيل أنّ السجين لا تُسْلَخ عنه حقوقه الإنسانية والمدنية، بل تبقى له حقوق لا بدّ من مراعاتها وعدم تجاوزها، لأنّ نظرة الإسلام إلى السجن تنقسم إلى شقّين أساسيين:
الأوّل: أنّه مكان لقضاء عقوبة المخالفة أو الجناية المرتكبة بحق أمن المجتمع وسلامته.
الثاني: أنّه مكان لحفظ كرامة الإنسان وعدم إهدار حقوقه المدنية والإنسانية، وهذا ما يمكن أن نعبّر عنه بأنّ السجن في أحد قسميه هو: (تصحيح الفرد وتهذيبه في السجن بالطريقة التي تجعله إنساناً سوياً مستقيماً عندما يخرج بعد انتهاء العقوبة).
وأمّا الحقوق التي أثبتها الإسلام للسجين فهي على النحو التالي:
الحق الأوّل-حقّ المسجون إذا أُثبتت براءته:
وهناك خلاف بين الفقهاء في هذه المسألة ناتجة عن أنّ عمل الإنسان قبل المعاوضة عليه هل هو مال أو لا؟ ويمكن القول بأنّ هناك فارقاً بين الإنسان الكسوب وغيره، فإن كان كسوباً وسجن بتهمة ما ثمّ تبينت براءته فمن يضمن عمله الذي فات عليه، لأنّ تبيان البراءة إمّا بسبب خطأ الشهود أو بسبب تعمّدهم الشهادة الكاذبة أو بسبب خطأ الحاكم في حكمه، ولذا يقول الإمام الخميني (قده):(إنّ عمل الحر مال سواء كان كسوباً أم لا، ضرورة أنّ خياطة الثوب أو صغر ما له قيمة مالية هو عمل يبذل بإزائه الثمن، وليس العمل إلاّ ما يكون مورداً لرغبة العقلاء وتفاضلهم ومعه يبذلون بإزائه الثمن..)
فالفرق بين عمل الكسوب وغيره من جهة صدق المال في الأول دون الثاني، ليس على ما ينبغي، نعم فرق بينهما في تحقّق الضمان بحبسه، فإنّ الظاهر أن حبس الحر الكسوب موجب للضمان لدى العقلاء.
وقد قال السيد الكلبايكاني (قده) :(نعم يجب تجديد النظر في صورة دعوى المحكوم عليه كونه حكم الحاكم الأول على خلاف القواعد والأحكام المقرّرة في القضاء، فإن كان حكمه عن تقصير فهو ضمان، وإن كان عن قصوره فضمان من بيت المال).
وإن كان الخطأ في الشهود ثمّ اعترفوا بخطأهم ضمنوا هم كسب العامل خلال فترة حبسه كما أفتى بعض الفقهاء بذلك مثل إبن حمزة والمحقّق الحلّي والعلامة الحلّي.
الحق الثاني- حق المسجون في حضور الشعائر الدينية:
وقد ورد في الروايات ما يشير إلى هذا الحق بوضوح وصراحة، ومنها:
1ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: (على الإمام أن يخرج المحابيس في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة، ويوم العيد إلى العيد، فيرسل معهم فإذا قضوا الصلاة والعيد ردّهم إلى السجن).
2ـ عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): (أنّ علياً كان يخرج أهل السجون من أحبس في دين أو تهمة إلى الجمعة فيشهدونها ويضمِّنهم الأولياء حتّى يردّوهم).
3ـ وعن علي (عليه السلام): (كان يخرج الفسّاق إلى الجمعة وكان يأمر بالتضييق عليهم وجاء في كتاب ولاية الفقيه (والظاهر أن لا خصوصية للدين والتّهمة بل الظاهر عموم الحكم لكلّ مسجون مسلم...).
وهذا الحق يثبت أنّ السجين لا تُسلَب حقوقه الدينية، لأنّ حبسه بتهمةٍ ما لا يترتّب عليها التشفّي والإنتقام منه وإهدار كلّ حقوقه كما كان يحصل عند الأمم السابقة، وكذلك كما يجري حالياً في الكثير من دول العالم، وهذا الحقّ يثبت تقدّمية التشريع الإسلامي على كلّ القوانين الوضعيّة التي تسعى اليوم لتحقيق بعض الحقوق للسجين اعترافاً بإنسانيته ولو ارتكب ما يوجب دخوله السجن.
الحق الثالث- حقّ المسجون في زيارة أقربائه وأصدقائه له في السجن:
وهذا الحق قد وردت فيه رواياتٌ عديدة تصرّح بحقّ السجين في أن يعرف أخبار محيطه ومجتمعه من خلال زيارة أقاربه وأصدقائه له، لأنّ هذا الحق يبقيه على تواصل مع كلّ من له علاقة به، ويجب على إدارات السجون أن تضع برنامجاً يتحقّق فيه هذا التواصل، ومن الروايات الواردة في هذا المجال:
1ـ كتاب علي إلى رفاعة حول إن هرب المسجون :(...ولا تحلّ بينه وبين من يأتيه بمطعم أو مشرب، أو ملبس أو مفرش، ولا تدع أحداً يدخل إليه ممّن يلقنه اللدد "العدواة").
الحق الرابع- حقّ المسجون في الرفاهية:
وهذا الحقّ راجع إلى أنّ السجن في جانب منه هو للتأديب والإصلاح، وليس للتشفّي والإنتقام والإنتقاص من الحقوق المدنية والإنسانية للسجين، وإصلاح أمره داخل السجن حتّى يخرج إنساناً سويّاًً على الأقل، ولذا ورد في كتاب علي (عليه السلام) حول المسجون ان هرب :(ومر بإخراج أهل السجن في الليل إلى صحن السجن ليتفرّجوا).
وقال بعض المفكرين: (أن يكون بناء السجن مريحاً وواقياً من الحر والبرد ممّا يتوفّر معه راحة السجين، ومن هنا نرى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبس في الدور الإعتيادية التي يسكنها سائر الناس ويتوفّر فيها النور والسعة، فقد حبس الأسرى المقاتلين الذين حكمهم القتل في دور إعتيادية إذ فرّقهم على بيوت الصحابة، وأحياناً كان يحبسهم في دارٍ واحدة كما حبسهم في دار امرأة من بني النجار من الأنصار).
وجاء في كتاب ولاية الفقيه (أنّ على الإمام أن يراعي حاجات المحبوسين في معاشهم من الغذاء والدواء والهواء الصافي والألبسة الصيفية والشتوية وسائر الإمكانات).
الحق الخامس- حقّ المسجون في الإجازة:
وهذا الحق ليس فيه نصوص صريحة، إلاّ أنّ بعض الفقهاء استفاد هذا الحق من الروايات التي تشير إلى إخراج المسجونين لصلاة الجمعة والعيد، فقد أفتى هذا القسم من الفقهاء أنّ الحق في الخروج إلى الجمعة والعيد لا يمنع من الإجازة للسجين بزيارة أهله في يوم العيد مثلاً أو في بعض المناسبات المهمة كوفاة أحد الأرحام الأقربين كالأب والأم أو الزوجة والولد وما شابه ذلك.
وأتصوّر أنّ إثبات هذا الحق مع ضوابطه وقيوده يمثّل نقلة نوعية في طريقة تعامل الإسلام مع المسجونين ويثبت بالتالي مقدار احترام الإسلام لحقوق الإنسان وخصوصاً الشخصية والعائلية وأنّ السجن لا يلغي تلك الحقوق، وليس كما يدّعي المدافعون زوراً وبهتاناً عن حقوق الإنسان في عالم اليوم المزيّف والمنافق.
الحق السادس- حقّ المسجون في تعجيل محاكمته:
وهذا الحقّ من أمّهات حقوق السجين، لأنّ في عدم تعجيل محاكمته تضييعاً لحقّه، خصوصاً إذا كانت المخالفة لا يترتّب عليها حبسه مدّة طويلة نسبياً أو طويلة جداً، وقد يضيع بسبب عدم تعجيل المحاكمة كثير من المنافع الراجعة إليه، ولذا ورد في الروايات أنّ أول ما كان يفعله أمير المؤمنين (عليه السلام) هو النظر في شأن المحبوسين، فيحكم على من يجب عليه الحكم لقيام الأدلّة والبيّنات، ويخلي سبيل من لم تتمّ البيّنة على الدعوى ضدّه، ومنها: ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أنّه كان يعرض السجون في كلّ يوم جمعة فمن كان عليه حدّ أقامه، ومن لم يكن عليه حدّ أخلى سبيله).
وأمّا الفقهاء فقد اجتمعت كلمتهم على هذا الحق، وقال الشيخ الطوسي (قده): (فإذا أجلس للقضاء فأوّل شيء ينظر فيه حال المسجونين في حبس المعزول، لأنّ الحبس عذاب فيخلعهم منه، ولأنّه قد يكون منهم من تمّ عليه الحبس بغير حق...)، وعن المحقّق: (...والسؤال عن أهل السجون وإثبات أسمائهم والبحث عن موجب اعتقالهم ليطلق من يجب إطلاقه)، وقال صاحب الشرايع (...ثمّ يسأل عن أهل السجون ويثبت أسماءهم وينادي في البلد بذلك، ليحضر الخصوم ويجعل لذلك وقتاً، فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد ويسأله عن موجب حبسه، وعرض قوله على خصمه، فإن ثبت موجب الحبس أعاده، وإلاّ أشاع حاله بحيث إن لم يظهر له خصم أطلقه)، وقال العلامة الحلي: (ثمّ ينظر أول جلوس في المحبوسين ينطلق كلّ من حُبِسَ بظلم أو تعزير، ومن اعترف أنّه حُبِسَ بحقّ أقرّه...).
الحق السابع- حقّ المسجون في حضور زوجته إليه:
وهذا الحقّ قد اعترفت به بعض الدول في العالم الغربي أخيراً، حيث يتمّ تحديد وقت معين ليختلي الزوج بزوجته، لأنّ الحاجة الجنسية هي أساسيّة عند الإنسان، والسجين قد يمارس ما لا يجوز فعله لو حرمناه هذا الحق، فأجاز الإسلام إحضار زوجته إليه، أو أخذه إليها في أوقات محدّدة مع الحراسة المشدّدة عليه، وقد ورد في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ امرأة استعدت علياً (عليه السلام) على زوجها فأمر علي (عليه السلام) بحبسه، وذلك لأنّ الزوج لا ينفق عليها إضراراً بها فقال الزوج: "أحبسها معي" فقال علي (عليه السلام) لك ذلك، إنطلقي معه لا عليكِ أحداً). وقد أفتى العلامة الحلي بذلك فقال (ولو حُبِسَ قبل القسمة، فاستدعى واحدة لزمه استدعاء الباقيات، فإن امتنعت واحدة سقط حقّها) وورد في كتاب ولاية الفقيه ما يلي :(ومن الأمور المهمّة التي ينبغي رعايتها إيجاد شرائط اللقاء بين المسجون وزوجته وإمكان الخلوة بينهما، فإنّ الحاجة الجنسية من أشدّ الحاجات، والفصل الطويل بينهما يستعقب أموراً لا يرضى بها العقل والشرع وربما يوجب الفرقة وتلاشي الحياة الزوجية).
وهناك حقوق أخرى للسجين نذكرها بلا توسعة اختصاراً منها:
1ـ فصل الرجال عن النساء في السجن، لأنّ في الجمع بينهما مفاسد كثيرة لا تخفى على أحد، وهذا الأمر موجود حتى في البلدان الغربية وفي معظم دول العالم تقريباً.
2ـ فصل الأحداث عن البالغين: لأنّ الأحداث هم الذين ما زالوا صغيري السن فجمعهم مع المجرمين الخطيرين قد يعرّضهم للضياع وتعلّم أمور سيّئة تدفعهم بعد الخروج إلى أن يكونوا من أمثال أولئك المجرمين الكبار، مع أنّ الحدث عندما يُسجن ينبغي أن يكون حبسه طريقاً لإصلاحه لا لإفساده.
3ـ فصل المجرمين الخطيرين عن مرتكبي الأمور الصغيرة: وذلك لنفس الغاية في التفريق بين الأحداث وأولئك المجرمين.
4ـ فصل المسلمين عن غير المسلمين: حتّى لا يأخذ المسلم الضعيف العقيدة أو الإلتزام من غير المسلمين ممّا يعرضه لخطر الإرتداد بعد الخروج من السجن.
وهناك حقوق تفصيلية أخرى لا مجال لذكرها، ولعلّنا نتعرض لها في مقالةٍ أوسع من هذه المقالة.
والحمد لله ربّ العالمين