طاعة أولي الأمر في الإسلام 4
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2559
أولاً: إتخاذه موقف المهادنة والمعارضة الإيجابية البنَّاءة نظراً لحداثة الدولة الإسلامية من جهة، ولحداثة الإيمان بالإسلام من الجهة الأخرى، ولذا ورد أنّ أبا سفيان والعباس عندما جاءاه يعرضان عليه المال والرجال لاسترداد الحق أجابهما ( عليه السلام):(أيّها الناس: شقّوا أمواج الفتنة بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح، هذا ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني التمرة قبل وقت إيناعها كالزارع في غير أرضه).
ولا شكّ أنّ هذا الموقف الحكيم كان له دور مهم في علاقة الإمام علي ( عليه السلام) في مجمل القضايا والأحداث طوال تلك الفترة، فكان يمحّض الخلفاء النصيحة حرصاً على المصلحة العامة التي كانت تقتضي في تلك الفترة تجاوز كلّ ما من شأنه إثارة الخلافات وانقسام الناس إلى أفرقاء متناحرين، وقد ورد عن الإمام ( عليه السلام): (لأسالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلّا عليَّ خاصة).
ثانياً: مداخلاته في الكثير من تصرّفات الخلفاء الثلاثة، تارة بنحو المشورة وأخذ الرأي، وتارة بنحو النصيحة منه إليهم، وثالثة بنحو تصويب بعض الأحكام الصادرة عنهم، ورابعة بنحو الإرجاع إليه لأخذ الحكم عنه نظراً لما استطاع أن يفرضه على الخلفاء بالطريقة الإيجابية بالتعامل معهم، حتى ورد عن الخليفة الثاني قوله المشهور المعروف: (لولا علي لهلك عمر)، بل حتى أنّ الإمام علياً ( عليه السلام) عندما اجتمع المسلمون من الأقطار المختلفة آنذاك للإعتراض على سياسة الخليفة الثالث عثمان بن عفان أرسل ولديه "الحسن والحسين ( عليهما السلام) ليحرسا منزله خوفاً من تطاول البعض من المعترضين والمتذمّرين من سياسته.
وهذه السياسة التي انتهجها الإمام ( عليه السلام) هي التي جعلته في موقع لا يستطيع أصحاب الشأن والقرار آنذاك أن يتجاوزوه، ولذا عندما توفي عمر بن الخطاب كان الإمام علي ( عليه السلام) أحد الستة الذين انتدبوا ليختاروا واحداً من بينهم ليكون خليفة المسلمين، وعُرِضَتْ عليه الولاية والخلافة بالفعل، لكن على أن يعمل بكتاب الله وسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر، فكان جواب الإمام ( عليه السلام) بأنّه حاضر للقبول لكن على أن يعمل بكتاب الله وسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الشيخين ما استطاع، لأنّ بعض مفردات سياسة الشيخين لم تكن مورد قبول الإمام علي ( عليه السلام) وكانت موضع اعتراض من جانبه، ولذلك لم يقبل العرض بشروطهم لأنّه لا يريد القبول ببعض الأمور التي لم يكن موافقاً عليها، وهكذا كان، وعُرِضَ الشرطُ على عثمان فقبل به، وبهذا صار هو الخليفة دون علي ( عليه السلام)، إلّا أنّه مع ذلك الإقصاء الذي كان هدفاً لمن جعل علياً ( عليه السلام) واحداً من مجموعة الستة، لتحميله مسؤولية رفض موقع الخلافة وتبرير ذلك عند الخاصة والعامة من أبناء الأمة، وللإمام علي ( عليه السلام) في هذا المجال نص موجود في كتاب نهج البلاغة :(... حتى إذا مضى لسبيله أي.. عمر.. جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم، فيا لله وللشورى!، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم، حتى صرت أُقْرَن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره مع هنٍ وهن...).
ومع كلّ ذلك لم يغيِّر الإمام ( عليه السلام) طريقته، ولذا نجد أنّ الأمة من خلال الطريقة التي تعامل بها عليٌّ ( عليه السلام) فرض نفسه عليها كخيار وحيد لاستلام الحكم والخلافة، لأنّها لم تجد من بين جميع المرشحين من هو أولى منه لقيادة الأمة والسير بها نحو المقاصد والأهداف القائمة على قواعد العدل والحق والحرية واحترام الإنسان وحقوقه.
وبذلك المسار الواعي المخلص لله ولدينه ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) تمكّن الإمام ( عليه السلام) من إقناع الأمة بعمومها وخصوصها بأهليته التامة وبأحقيته دون غيره.
وحتى عندما حاول عدم القبول بالمنصب بقوله :(دعوني والتمسوا غيري) أو :(لأن أكون لكم وزيراً خير من أن أكون لكم أميراً)، فإنّ القوم أصروا على مبايعته بالخلافة وهكذا جرت الأمور واستلم علي ( عليه السلام) الخلافة من الموقع الذي يريد وبشروطه المعروفة مسبقاً.
والسؤال الذي يتوجّه هنا هو :(هل استطاع الإمام ( عليه السلام) بعد استلامه الخلافة من وضع الأمور في نصابها؟ أو أنّ المتضرّرين من ولايته والطامعون بالخلافة قد قلّبوا عليه الأمور وخرَّبوا الأوضاع عندما وجدوا أنّ ما كانوا يخطّطون له أو يطمحون إليه لن يصلوا له في ظلّ خلافته وقيادته للأمة؟ الجواب عن ذلك في الحلقة القادمة إن شاء الله العلي القدير.
والحمد لله ربّ العالمين .