السبت, 23 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الحياد الإيجابي

sample imgage

تميزت قيادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للمجتمع الإسلامي بالثبات والاستقرار لعدة عوامل توافرت في شخصيته المميزة وهي:

أولاً : عامل الوحي والارتباط بالقدرة الإلهية كونه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كلّف بتبليغ الرسالة وإيصالها .

 

ثانياً : تسليم كل الفئات بقيادته كونه الرائد والواضع الأساس للتجربة الإسلامية الفتية التي تمكنت بقيادته الحكيمة من تأسيس النواة للدولة الإسلامية الكبرى.

ثالثاً : حداثة التدين من خلال التجربة الإسلامية واحتياج الجميع إليه ، وهذا ما جعل كل الشخصيات والفئات في موقع العجز عن مجاراة موقعيته المميزة وقيادته المستوعبة .

من هنا نتج عن رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ربه واضعاً مضطرباً وقلقاً ودقيقاً بسبب ما أحدثته تلك الوفاة من بداية تشكيل التكتلات القائمة على العناصر المشابهة لما كان عليه الوضع زمن الجاهلية ، لكن مع إدخال عنصر إضافي عليها وهو " الإسلام " ، وهذا ما ظهر جلياً من خلال تكتلات رئيسة انقسم إليها المسلمون بعيد الوفاة وهي :

الأول : تكتل الأنصار بقيادة وجوه أساسية من مسلمي المدينة المنورة .

الثاني : تكتل المهاجرين المكيين بقيادة أبي بكر وعمر ومن معهما من الشخصيات الأساسية .

تكتل الهاشميين بقيادة أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه العباس والزبير وغيرهما من بعض الصحابة المميزين الذين كانوا على الدوام قرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) كسلمان وعمار والمقداد وأبي ذر، وهذا التكتل هو الذي تميز عن سابقيه نجلوه عن بعض العصبيات التي نتج عنها التكتلان الأولان.

إلا أن هذه التكتلات الثلاثة لم يكتب لها الاستمرار والبقاء بعد مجريات السقيفة ، وانحلت ضمن نهج وتيار يقوم كل منهما على أساس نظرية مختلفة عن كيفية اختيار ولي أمر المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

النظرية الأولى : وهي التي حدثت بداياتها بانتخاب أبي بكر للخلافة ثم بانتخاب عمر ثم عبر عملية الشورى التي نتج عنها انتخاب عثمان ، وهذا ما سمّي بالتاريخ الإسلامي ب " نظرية الشورى" أو " البيعة" التي تقوم على أساس رفض التنصيص على الخليفة وترك الأمر للمسلمين من خلال "أهل الحل والعقد " كما اصطلح على تسمية هؤلاء . 1ـ 2

النظرية الثانية : وهي التي تقوم على أساس التعيين من الله ورسوله وتقول بأن الخلافة التي هي مفاد الإمامة وجوهرها هي عبارة عن إكمال المسيرة التي بدأها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) لرعاية المجتمع الإسلامي الذي كان بحاجة إلى الكثير من الجهد والاهتمام لتركيز الإسلام ومفاهيمه عند أبنائه وأفراد دولته بسبب حداثة الانتماء إلى الدين الجديد والدولة الفتية .3

وبما أن النظرية الثانية هي التي تم إقصاؤها مع أنها وفق النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي كان ينبغي أن يستند إليها المسلمون ، جعلت موقف أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو المنصوص عليه صعباً في مواجهة تلك الحالة الناتجة عن الأوضاع الطارئة برحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا ما عبر عنه الأمير (عليه السلام) في بعض النصوص الواردة عنه ، ومنها (وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ويشيخ فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ).

والذي يمكن استيحاؤه من هذا النص وما يقاربه في هذا المعنى هو أن الخيار العسكري لحسم الموقف لم يكن بعيداً أول الأمر عن فكر الامام (عليه السلام) إلا أن تراجعه عنه كان بسبب قلة الناصر والمعين كما يتضح من نص آخر وهو صريح في مضمونه هذا، (فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى وشربت على الشجى ، وصبرت على اخذ الكظم وعلى أمر من طعم العلقم ) 4

من هنا ابتدأ الإمام بالسعي لتأسيس حركة المعارضة للسلطة، وكان ارتكازه في ذلك إلى قاعدتين أساسيتين هما :

الأولى : إظهار التمايز في الموقف من قضية اختيار الخليفة بالطريقة التي تمت بها وإظهار أنها ليست الطريقة المتناسبة مع التنصيص والتعيين الإلهي والنبوي .5

الثانية : عدم الإصطدام العسكري بالسلطة القائمة والتعامل معها بالطريقة التي تبرز مواطن الخطر أو الخطأ في مسار الذين تعاقبوا على ذلك المنصب الحساس والمهم .

وقد ورد في كلام الامير (عليه السلام) ما يشير إلى اختياره هاتين القاعدتين كأسلوب للمعارضة، وعمدة ذلك الكلام أن الإمام (عليه السلام) كان يتخوف من حدوث ما هو أسوأ في النتائج على مستوى استمرار الدولة وحركة الدعوة ومن كلماته في هذا المجال: ( فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السحاب).

وعليه فيمكن القول إن الأسباب التي حدث بالإمام (عليه السلام) إلى اتخاذ المعارضة كسلاح في مواجهة الحاصل هي :

أولاً : قلة الناصر والمعين في حال اتخاذ المعارضة المعنى السلبي وعدم ضمان النتائج المتوخاة.

ثانياً : هشاشة وسطحية التماسك الداخلي لمجتمع المسلمين كما حصل في التكتلات التي سبق ذكرها .

ثالياً : حركة الارتداد وما يسمّى الرفض أيضاً لنتائج السقيفة وعدم الإعتراف بالسلطة الناشئة .

هذه الامور كلها دفعت بالإمام (عليه السلام) إلى أن يختار مسلك المعارضة الإيجابية والتي قامت على القاعدتين اللتين ذكرناهما .

وقد بقي الامام (عليه السلام) في هذا الموقع طوال فترة حكم الخلفاء الثلاثة مع الاختلاف الكبير في حكم كل واحد منهم، بينما الإمام (عليه السلام) كان طوال تلك الفترة التي دامت ما يقرب من ربع قرن العين الساهرة على المصالح العليا للأمة وتغليبها على منطق المصلحة الشخصية ، وقد تميزت تلك الفترة الطويلة من حياة الإمام (عليه السلام) بخصائص عدة هي :

أولاً : الإقتراب الشديد في الكثير من الأحيان من موقع السلطة لترشيدها في أفعالها والتأثير على المسار العام للأحداث ، وهذا الأمر صار يتضح أكثر مع كل خليفة ، وبرز بشكل واضح جداً في زمن خلافة عثمان عندما استطاع الأمويون وعثمان منهم إلى أن يتسلموا المناصب العليا في الدولة مما أدى إلى نقمة عارمة عند عموم المسلمين بسبب انصياع الخليفة لأهوائهم وتبنيه لمواقفهم .

ثانياً : التذكير بحقه في كل فرصة كانت تسنح له الظروف بذلك ، لأن مبايعته المتأخرة لأبي بكر ومن بعده لعمر ثم عثمان كانت ناشئة من الدوافع التي ذكرناها ولم تكن بمعنى التنازل عن حقه الثابت له ، وإنما المصلحة الأهم اقتضت ذلك .

ثالثاً : إبراز الأخطاء وتراكمها : وهذا الأمر كان لا بد من حصوله بسبب عدم الإلمام الكامل من الخلفاء بمسائل الحكم والإدارة والقضاء والتشريع ، وهذا كله كان يؤدي إلى أن يتدخل الإمام (عليه السلام) حيث يمكنه ذلك لإبراز أهليته وأفضليته لقيادة الأمة التي قدمت المفضول على الفاضل .

رابعاً : مرجعية الأمة لكل المعارضين : وذلك لأن الإمام (عليه السلام) عندما سلك المعارضة بشكلها الإيجابي حيث يتدخل مانعاً أو شارحاً أو مشاركاً طوال فترة الخلفاء الثلاثة ، وخاصة خلال عهد عثمان ، كل هذه الأمور أكسبته ثقة كبيرة عند المعظم من أهل الرأي وعموم الأمة وصار القطب الذي تتحرك حوله الجماهير وتتمنى قيادته للأمة وإن كانت المنطلقات للتحلق حوله متنوعة تبعاً للأهداف عند كل واحدة منها ، إلا أنه صار الرقم الصعب والخيار الوحيد للأمة في مواجهة الأخطار الداخلية المحدقة بها .

وهكذا تسلسلت الأحداث وتراكمت لمصلحة الإمام (عليه السلام) الذي تحمل الكثير من الأذى على المستوى النفسي عند كل عملية اختيار خليفة بسبب الإقصاء المتعمد من الجهات التي اتخذت صفة صاحبة القرار لتعيين قيادة الأمة ، وكان أن وصلت الأمور مع عثمان إلى الحد الذي دفع ثمن رضوخه للمتعطشين للسلطة من وجوه بني أمية الذين أردوه للمهالك .

وبوصول الأمور إلى هذا الحد لم يعد بمقدور أحد ضبط الأمور إلاّ الإمام (عليه السلام) الذي أجمعت الأمة عليه لإعادة الأمور إلى نصابها في كل المستويات ، وهكذا أعادت الأمة الحق إلى صاحبه بعد طول فراق قسري فرضته الدوافع الكثيرة التي لم يكن التخطيط المنظم بعيداً عنها بسبب التقارب في المواقف بل التوحد في موقف التكتل من المهاجرين الذي استطاعوا أن ينتزعوا الخلافة وإبعادها عن صاحبها لمدة قاربت الربع قرن بتمامه .