دروس سياسية وجهادية من حياة السيدة الزهراء (ع)
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 5973
(صلى الله عليه وآله وسلم) عبر الأمين جبرائيل: (يا محمد لولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما) ،هذا الحديث الذي قد يكون صعب القبول والتصديق للوهلة الأولى وقد يتّهمنا البعض بسببه بما لا يليق لأنّ ظاهره يشير إلى أنّ الله لم يخلق السموات ولا الأرض ولا حتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ من أجل فاطمة (عليها السلام) وبسببها، ولكن عندما نتأمّل جيداً وننظر إلى الواقع هذا الحديث الذي يريد أن يدلّنا على شيءٍ محدّد فإنّ الغرابة فيه ستزول حتماً ويقيناً، وذلك لأنّ الزهراء (عليها السلام) هي ابنة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوج أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي بالتالي أمّ الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بدءاً بالحسين (عليه السلام) وانتهاءً بالمهدي المنتظر (عج)، أرواحنا لمقدمه الفداء فهي بهذا تكون واسطة السلسلة والعقد وأنّها الرابط المباشر بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) من جهة وبين الأئمة (عليهم السلام) من الجهة الأخرى، ولولاها لم يكن هناك أئمّة باعتبار أنّه لم يكن لها كفء من الرجال ليقترن بها ولينتج عن ذلك الإقتران تلك السلسلة المتكاملة من الأنوار الإلهية المعصومة والذي يؤكد هذا المعنى ويكشف عن هذه الحقيقة أكثر بصورة أوضح وأجلى الحديث القدسي الآخر الذي يقول فيه ربّ العزّة لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا محمد إنّ الله عزّ وجلّ جلاله يقول : لو لم أخلق علياً لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه) ،وبهذا الحديث تكتمل الصورة التي نريدها وهي أنّ الزهراء (عليها السلام) ليست إنساناً عادياً، وإنّما كان لها دورها المرسوم والمحدّد من أصل الخليقة والتكوين.
هذه المقدّمة تكفي لبيان عظمة الزهراء (عليها السلام) لتكون مدخلا ً إلى الحديث عن جانبٍ معين من الجوانب المتعدّدة من حياتها المباركة وهو الجانب الجهادي والسياسي وهو الذي يعتبر من مواطن الإبتلاء للمرأة المسلمة المعاصرة التي تنظر إلى الزهراء (عليها السلام) أيضاً النظرة الواقعية للمرأة المجاهدة على الصعيد السياسي في المجالات التي تتمكّن من الخوض فيها للردّ على الكثير من الشبهات والشكوك التي يثيرها أعداؤنا حول مكانة المرأة ودورها في العمل التبليغي والسياسي.
وهذا ما يدفعنا للكشف عن مراحل الدور الجهادي السياسي الذي مارسته الزهراء (عليها السلام) إلى جانب أمير المؤمنين (عليه السلام) والصفوة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين وقفوا بجانبه من أجل إعادة الأمور إلى نصابها وإرجاع الحقّ إلى أهله وأصحابه الحقيقيين.
إنّ الزهراء (عليها السلام) كانت منطلقة في حركتها وعملها من خلال كونها إنساناً لا من خلال كونها أنثى والفرق بين النظريّتين واضح، لأنّ وظيفة المرء كإنسان مختلفة عن وظيفته كذكر أو كأنثى لأنّ الإنسان الملتزم عندما ينطلق من موقع إنسانيّته لا من موقع تصنيفه التكويني سوف يعيش حسّ المسؤولية تجاه ما يعتنقه من مبادئ بسبب عدم سيطرة الجانب التكويني فيه على الجانب الإنساني، وهذا يعني بالتالي أن تنظر المرأة عندما تنطلق من هذه النظرة إلى أنّ دورها كأنثى يجب أن لا يأخذ من حياتها أكثر من الحجم المرسوم له وهو إشباع حاجات الطرف الآخر من الناحية الجسدية الغريزية بالدرجة الأولى وأنّها السبيل لاستمرار النسل البشري من جهةٍ ثانية، وكذلك الأمر من جانب الرجل عندما ينطلق من موقع إنسانيّته فإنّ ناحية الذكورية فيه يجب أن تقتصر على ما يزيل الحاجة إلى تلك الغريزة من ناحية إشباعها من خلال الطرف الآخر وأنّها طريقٌ أيضاً لاستمرار السلالة البشرية من خلال التفاعل الحاصل بين الجنسين.
لكن دور المرأة في الإسلام أوسع بكثير كما اتّضح ممّا قلناه، ويتجاوز الدور الأنثوي المحض الذي ما زال مجتمعنا يعمل على محاصرة المرأة فيه وما برح معتصماً به، ومحارباً لأيّ فكرةٍ أو توجّه يسعى إلى تثوير حالة المرأة المسلمة للتحرّر من قيود هذه النظرة المسلمة المتخلفة الطارئة على حياة الأمّة الإسلامية نتيجة القرون المتمادية من الجهل والفقر والعوز والظلم والإستبداد التي مرّت به الأمّة ككل، ممّا أدّى إلى عودة الأمّة إلى عاداتها الجاهلية القبلية وعملت على تغليفها بغلافٍ إسلامي شرعي، ممّا جعل أيّ عملية خروج عن الدور المعروف عرفياً واجتماعياً للمرأة على أنّه مروق من الدين وبدعة وضلال، وهذه النظرة السلبية كما نرى ليست مقتصرة على العوام والبسطاء من أبناء الأمة، بل على قسمٍ من المثقفين أيضاً حسب تفاوت درجاتهم الثقافية والفكرية فنحن إذن بحاجة ماسّة خاصة في زمن هذه الصحوة الإسلامية المباركة أن نعيد النظر في كثير من القضايا التي نمارسها عملياً من خلال قناعاتنا حتى تعود حركتنا في كافّة النواحي مطابقة لواقع النظرة الإسلامية إلى حركة الإنسان في الحياة، خاصة في مثل هذه القضية التي نتكلّم عنها وهي "دور المرأة المسلمة" من خلال الجانب الذي نتحدّث عنه من حياة الزهراء (عليها السلام) أي الجانب الجهادي والسياسي.
هنا عندما نرجع إلى نصوصنا الشريفة نجد قسماً وافراً يركّز على الزهراء (عليها السلام) على أنّها معلمٌ من معالم الحق ومقياس من مقاييس الإلتزام بنهج الإسلام الصحيح ونور من أنوار الهداية والرشاد كما في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : (إنّ الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)، أو (فاطمة بضعة مني، من سرّها فقد سرّني، ومن ساءها فقد ساءني فاطمة أعزّ الناس عليّ)، فمثل هذين الحديثين وما يقرّبهما في المعنى والمضمون لا ربط لها بقضية قرابة الزهراء (عليها السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ هذا ممّا ينبغي أن نجل نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه خاصة عندما نسمع قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقها: (لو أنّ فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) سرقت لقطعت يدها).
إذن إنّ تلك الأحاديث ناظرة إلى أنّ الزهراء (عليها السلام) كانت تمثل ركناً من أركان الحق وعلماً من أعلامه راية من راياته ليقتدي بها سائر الناس خاصة من الذين قد لا يستطيعون التمييز بين الحق والباطل حتى لا ينحرفوا أو يشتّوا عن الصراط المستقيم من خلال اتّباع من ليس أهلا ً لقيادة المسلمين وتولّي شؤونهم، وهذا المقياس كما سيتبيّن لم يكن مختصّاً بالزهراء (عليها السلام) بل ورد مثل هذه الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على توجيه أنظار الناس إليهم حتى يكونوا المقياس الذي من خلاله يقيس المسلمون أيّ إنسان يريد أن يكون موضحاً هوية الحاكم وتوجّهاته، وأنّه هل هو الحاكم الملتزم بالإسلام ليجب علينا إطاعة أمره ونهيه ؟ أو أنّه ليس ملتزماً بالإسلام فينبغي علينا محاربته وإسقاطه عن تولي سدّة الخلافة الإلهية على المسلمين زوراً وبهتاناً باسم النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ ولتأكيد هذا المعنى نشير إلى بعض الأحاديث الواردة في حق بعض الصحابة الذين لفت نظر الأمّة إليهم كما عن سلمان في قوله (عليه السلام): (سلمان منّا أهل البيت) ،أو كما ورد في حقّ أبي ذر: (ما أقلّت الخضراء ولا أظلّت الغبراء أصدق لهجةٍ من أبي ذر)، أو كما ورد في حقّ عمار بن ياسر: (يا عمّار تقتلك الفئة الباغية)، فأمثال هذه الأحاديث الواردة في حقّ هؤلاء ناظرة إلى نفس المعنى الذي وردت فيه الأحاديث عن الزهراء (عليها السلام) وهذا يستدعي مناّ أنّه عندما نريد أن نشرح بعض ما ورد في السنّة أن لا نقتصر على معاني الألفاظ بل أن ننظر إلى الخلفيات أيضاً، لأنّ الكثير ممّا يبدو في ظاهره أنّه ناظر إلى قضية أخلاقية أو أدبية أو إنسانية أو ما شابه ذلك تحمل في طيّاتها دلالات تشير إلى معان ٍ سياسية راقية ينبغي على المسلمين أن يلتفتوا إليها ويدقّقوا فيها للإستفادة منها في حياتهم العملية، فإنّ ذلك المقياس لا يختصّ بالزهراء (عليها السلام) كما أوضحنا ذلك إلاّ أنّنا ركّزنا على نموذجيّتها (عليها السلام) كونها مورد بحثنا ولأنّها مصاغة من نفس الطينة التي صاغ بها الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وهذا يثبت أنّه عندما ننظر إلى الزهراء (عليها السلام) علينا أن ننظر إليها على أنّها رائدة إسلامية كانت تسعى من خلال حركتها وعملها إلى كشف الزيف والباطل الذي حصل بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتصحيح المسيرة التي جاهد من أجلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه حتى استطاعوا بناء النواة الأولى للدولة الإسلامية القائمة على موازين الله والإسلام والقرآن، ومن هنا ندرك أهمية سعي المرأة المسلمة لتحصيل الوعي السياسي من خلال نظرها إلى نفسها على أنّها إنسان لا أنثى فقط ، لأنّ حصارها في هذه الحدود بالذات ما هي إلاّ نتيجة التخلّف الحاصل عبر القرون، فجعل الإستثناء قاعدة والقاعدة استثناء وتحوّلت المرأة إلى مجرّد موظّفة عند زوجها أو أهلها أو حيث هي من أجل القيام بالأعمال المنزلية الروتينية وتربية الأطفال، وإن كانت هذه الوظائف ممّا تحتاجها الحياة الإجتماعية أيضاً. إلاّ أنّ إهمال الناحية السياسية في تثقيف المرأة كان له دور سلبي في تجهيل أجيال كثيرة من المسلمين وتهميش دور الأمّة على المستوى العام، ولهذا فإنّنا عندما نعطي المرأة دورها المرسوم لها تستطيع أن تتجاوز حالة الحصار الإجتماعي المفروض عليها، وتفرض وجودها كعامل أساس من عوامل ردف الأمة بالطاقات الواعية المستوعبة لحالة مجتمعها وأمّتها. وقد تجلّى هذا الدور الإنساني الرسالي للسيّدة الزهراء (عليها السلام) في عدّة قضايا ومواقف بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي :
_ قضية فدك :
أمّا بالنسبة إلى فدك وهي قطعة أرضٍ كبيرة بها بساتين من أشجار النخيل وكانت تدرّ مبالغ طائلة من الغلاّت الكثيرة الموجودة فيها، وهي أرض كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وهبها لفاطمة (عليها السلام) بعد أن صالح أهلها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على نصفها أو كلّها على بعض الروايات، فهي إذن من الأراضي التي لم يفتتحها المسلمون بالقوّة حتى تكون ملكاً عامّاً لهم، وإنّما هي من الأراضي التي أباح الله التصرّف بها لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنحو الذي يريد، ولهذا فإنّ أرض فدك تعتبر ملكاً شرعياً لفاطمة (عليها السلام) بسبب هبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الأرض لابنته الطاهرة، وبقيت تلك القرية بيد الزهراء (عليها السلام) من السنة السابعة زمان الصلح إلى حين رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
لأجل ذلك كانت مطالبة الزهراء (عليها السلام) بفدك مطالبة بحقّ شرعي ثابت بنص القرآن والسنة باعتبار أنّ فدك هي إرثها الشرعي من أبيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّ تلك المطالبة بالإرث الشرعي، ما كانت لتقف عند ذلك الحد فيما لو تمّت تلك الخطوة، بل إنّ تمامها لصالح الزهراء (عليها السلام) كان يخفي مطالبة من نوعٍ آخر، كانت هي السبب الحقيقي والدافع الأساس لتحرّكها المبارك، وذلك السبب هو طلب إعادة الحق في الخلافة إلى صاحبها الأصلي بنص الله والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك بتقريب أنّ إرجاع فدك إلى السيدة الزهراء (عليها السلام) كان حجّة على عدم أحقية الذي تولّى الخلافة ذلك المنصب الجليل والخطير، الذي يمثل استمرارية الخطّ النبوي الرسالي في قيادة الأمّة وتوجيهها نحو الأهداف الإلهية.
وهذا ما استوعبه الفريق الآخر الذي تربّع على سدّة الخلافة ولهذا نرى أنّ هذا الفريق الذي كان يتمثل بالخليفة الأول أبي بكر وصاحبه عمر بن الخطاب لم يستجيبا لطلب الزهراء (عليها السلام) مع إشهادها على حقها زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) وأم أيمن أيضاً. لأنّ قبولهما بحجّتها سوف تفتح عليهم باب المطالبات الذي لن ينتهي إلاّ بإرجاع الحقّ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك كما عبّر بعضهم بأنّها اليوم تطالب بفدك وغداً تطالب بالخلافة لهذا السبب ولغيره من الأسباب المفصّلة في الكتب الأخرى لم يُرجعوا فدك إلى صاحبتها، ممّا أدّى بالزهراء (عليها السلام) إلى أن تخطب بمحضر الخليفة الأول خطبتها البليغة وموعظتها المعبّرة التي أثّرت في نفوس الحاضرين الذين أجهشوا بالبكاء ولعلّ القضية التي حدثت مع الإمام الكاظم (عليه السلام) عندما عرضوا عليه إرجاع فدك إلى أهل البيت (عليهم السلام) حيث قال لهم: "أقبل لكن بحدودها"، وكان يشير بذلك إلى أنّ حدود فدك هي كلّ حدود ومساحة الدولة الإسلامية الكبيرة التي تشملها خلافة المسلمين وحكم الإسلام.
ومن هنا إذن إنّ المطالبة بفدك، كانت مدخلا ً مناسباً لخوض المعركة السياسية الكبرى بنظر الزهراء (عليها السلام) وليست مجرّد دعوى على قطعة أرض لا قيمة لها بنظر البتول (عليها السلام) إلاّ بمقدار ما كانت ترمز إليه من معنى سياسي بحجّتها في قضية فدك :(يا بن أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فرياً أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول (وورث سليمان داوود)، أو كما قالت في مقطع آخر من الخطبة مبيّنة حقّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة: (أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟) و (وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ؟) .
وممّا يؤيّد هذا الأمر أيضاً ما ذكره ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة حيث يقول: (سألت ابن الفاراقي فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم، قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر وهي عنده صادقة؟ فتبسّم ثمّ قال : لو أعطاها اليوم فدك بمجرّد دعواها لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكنه الإعتذار لأنّه قد يكون قد سجّل على نفسه أنّها صادقة فيما تدّعي.
_ موقفها من إجبار الإمام على البيعة:
أمّا بالنسبة إلى هذه القضية فإنّ موقفها كان يتلخّص بأنّها كانت ترى أنّ ذلك يمكن أن يصبح عادة متّبعة في الزمن الإسلامي لكلّ طامع بالخلافة ليجبر أهل الحق على التسليم والرضوخ لأمره، إن لم يكن بالترغيب فبأسلوب الترهيب، كان ذلك لتضليل الرأي العام الذي قد ينخدع ليس طواعية أو عن قناعة منه باستلام من استلم زمام الأمور، وإنّما هي قد تكون بيعة باطلة لا تقدّم ولا تؤخّر في ميزان المسألة على المستوى السياسي العام، وإنّ على الناس أن تبحث عن عمق تلك الظواهر حتى تصل إلى جوهر الأشياء ليكون حكمهم عليها مُطابقاً للواقع والحقيقة، والذي أثار فيها كلّ تلك الثورة العارمة هو أنّها رأت أنّ الذين تسلّطوا على مقدّرات الأمّة يجرّون الإمام (عليه السلام) ويقتادونه للمبايعة مُكرهاً بعد ما حدث الذي حدث من هجومٍ سافر على بيتها الشريف المبارك، وحصل ما حصل من الآلام والأوجاع نتيجة العصر خلف الباب وإسقاط الجنين من أجل أن تحفظ سترتها وعفافها عمّن لا يحلّ له النظر إليها، من أولئك الظالمين الذين لم يراعوا حرمات الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت أعزّ الناس على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذلك البيت الذي كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) آخر ما ينظر إليه من بيوت المدينة عند خروجه منها، وأول بيت ينظر إليه عند دخوله إليها.
وعندما خرج الإمام (عليه السلام) بالقوّة مع أولئك القوم إذا بالزهراء (عليها السلام) المثقلة بالأوجاع والآلام تخرج وتجرّ معها ولديها سبطي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسن والحسين (عليهما السلام) قاصدةً القوم الذين أخرجوا زوجها لتُفهم وتضع الرأي العام مباشرة وعلناً أمام ما يحصل ضدّ البيت النبوي الذي أخرجهم من ظلمات الجاهلية والموت إلى نور الحياة والإيمان، ووقفت هناك أمام القوم مخاطبة أبا بكر :(مالي ولك يا أبا بكر ؟ تريد أن تؤتم ابنيّ وترملني من زوجي، والله لئن لم تكف عنه لأنشرنّ شعري، ولأشقنّ جيبي، ولآتينّ قبر أبي ولأصيحنّ إلى ربّي) ،عند ذاك قال الإمام (عليه السلام) لسلمان: (أدرك ابنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)) أقبل سلمان إليها وقال: (يا بنت محمد إنّ الله بعث أباك رحمة فلا تكوني السبب في هلاك هذه الأمّة)، بواسطة ذلك التحرّك المبارك استطاعت الزهراء (عليها السلام) أن تكشف أنّ البيعة حتى ولو تمّت لم يكن لها أيّ مضمونٍ عملي أو تأثير على حقيقة الأمر، ممّا قد يعطي المبرّر الكافي للآخرين الذين تولّوا السلطة، الحقّ في البقاء في ذلك المنصب الإلهي الخطير الذي لا يجوز أن يتولاّه إلاّ من ولاّه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأمر بعده وهو أمير المؤمنين (عليه السلام). ولهذا نجد أنّ الزهراء (عليها السلام) عندما أيقنت أنّ القوم لن يرتدّوا عن غيبهم ولن يعودوا إلى جادة الصراط المستقيم ولن يخضعوا للحق الصريح، أعلنت براءتها من أولئك القوم الظالمين، وأطلقت صرختها المدوّية بأنّها ساخطة عليهم وغاضبة منهم، وأنّ الله عزّ وجلّ هو الحكم الفصل يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم.
تلك البراءة من الظالمين الذين أغضبوها وأسقطوا جنينها وكادوا يحرقون بيتها مع علمهم بأنّها فيه حتماً، لعبت دورها بين المسلمين في المدينة، وصارت القضية موضع أخذٍ ورد وجدال في ذلك المجتمع ممّا دفع بأبي بكر وعمر إلى محاولة استرضاء الزهراء (عليها السلام) حال مرضها، وإلى محاولة الحصول منها على المسامحة على ما فعلاه بها وذلك لا من أجل إسقاط حقّها عنها فقط ، بل من أجل نيل صكّ البراءة أمام المسلمين لتبرير أعمالهما التي قاما بها ضدّ الزهراء (عليها السلام) والبيت العلوي بأسره ولقطع الطريق أمام أيّ شخصٍ أو جهة تريد استغلال ذلك الوضع الإنفعالي ظاهراً والهادف واقعاً، ومحاولة تعكير الجو في وجه الحكّام الجدد بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ الزهراء (عليها السلام) لم تعطهما تلك الفرصة وبقيت على موقفها الرافض كلياً لأيّ كلام في هذا الموضوع لأنّ التنازل عنه كان يعني في الحقيقة طمس قضية الحق كلياً لأمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة فضلا ً عن حقّها في فدك الذي كان مفتاح الدخول للوصول إلى الهدف الكبير لحركتها.
هناك نص في المقام يتضمّن الحوار الذي دار بين الزهراء (عليها السلام) من جهة وبين أبي بكر وعمر من جهة ثانية يكشف عن هذه الحقيقة وهو عندما دخلا عليها يزورانها في مرضها بعدما طلبا من أمير المؤمنين (عليه السلام) الإستئذان لهما منها، حيث قالت لهما: (ناشدتكما الله ألم تسمعا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة فقد أحبّني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ قالا نعم، سمعنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت : إنّي أُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأشكونّكما عنده).
_ بكاء الزهراء (عليها السلام):
لقد كانت الدوافع والأسباب للبكاء عند الزهراء (عليها السلام) كثيرة، فمن جهة رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ربّه، ومن جهةٍ أخرى اغتُصب حقّ الإمام علي (عليه السلام) في الخلافة، ومن جهةٍ ثالثة هجموا على بيتها وأسقطوا جنينها واضطرّوها إلى الخروج من بيتها بطريقةٍ لا تليق بابنة سيّد المرسلين وزوج الوصي أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن جهةٍ رابعة هضموا حقّها في إرثها من فدك هبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها.
فبعد كلّ تلك الأسباب والدوافع لم لا تبكي على ما حصل بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد رحيله وبعد استفرادهم من جانب الذين أبوا أن يلتزموا النهج وكرهوا أن تجتمع النبوة والإمامة في بني هاشم وذلك البيت الذي قدّمه الله على غيره واختصّه بتلك الميزة الخالدة والفضيلة العظمى.
فبكاؤها كان السبيل لتنفيس ما كانت تعيشه من حالاتٍ صعبة وأوقات حرجة مرّت عليها وعلى أهل بيتها بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأرادت أن يكون بكاؤها سلاحاً تنشره بين الناس من خلال إشاعة جوّ من الإنفعال الذي يثير المشاعر ويهزّ الضمائر، لعلّ جذوة الخير في نفوس المسلمين تتحرّك وتنهض لتدافع عن الحقّ السليب لأنّ دموع الزهراء (عليها السلام) لها قيمتها الكبيرة عند الله وعند رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأنّها تمثل المظلومية التي مرّت على ذلك البيت الطاهر، وقد استطاع ذلك الأسلوب أن يؤثر على مستوى تهييج نفوس الناس إلاّ أنّه للأسف لم يستطع أن يحرّكهم نحو المطلوب، لأنّ الناس كانت تشعر شعوراً مخادعاً بأنّ دينها ودنياها ليسا في خطر حتى ينتفضوا على الوضع القائم.
وقد ورد في بكاء الزهراء (عليها السلام) نصوص كثيرة تجعلنا نقول أنّ بكاءها لم يكن لمجرّد أنّها تريد ذلك لتخفيف آلامها وما كانت تشعر به فقط ، بل كان طريقاً أيضاً لاستثارة الهمم واستنهاض النفوس، ولهذا ورد أنّ الزهراء (عليها السلام) كانت توصل بكاء الليل ببكاء النهار حتى عرف كلّ مجتمع المدينة بهذا الأمر.
ومن نماذج بكاء الزهراء (عليها السلام) ما ورد أنّه في اليوم الثامن من وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) خرجت زائرة قبره المطهّر فلمّا وقع بصرها على القبر قالت: (واأبتاه وامحمداه واأبا القاسماه واربيع الأرامل واليتامى من للقبلة والمصلى ومن لابنتك الوالهة الثكلى بقيت بعدك وحيدة وحيرانة فريدة قد انخمد صوتي وانقطع ظهري وتنغص عيشي لا أجد يا أبتاه بعدك أنيسا لوحشتي ولا رادّاً لدمعتي ولا معيناً لضعفي قد فني بعدك محكم التنزيل ومهبط جبرئيل ومحلّ ميكائيل انقلبت بعدك الأسباب وتغلّقت دوني الأبواب فأنا للدنيا بعدك قالية وعليك ما تردّدت أنفاسي باكية لا ينفذ شوقي إليك ولا حزني عليك يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفين وأصبحت الناس عنّا معرضين).
_ وصية الزهراء (عليها السلام):
تعتبر وصية الزهراء (عليها السلام) التي أوصت أمير المؤمنين (عليه السلام) من أكثر مواقفها السياسية قوّة وتأثيراً على مستوى الرأي العام، نظراً لمكانتها المعنوية في مجتمع المسلمين، والذي يرشد إلى هذا، مجريات المسألة بعد وفاة الزهراء (عليها السلام) وقد ورد في الروايات أنّ وصيتها تضمّنت ما يشير إلى ما تقول ضمن النقاط التالية :
أ ـ أن تُدفن ليلا ً.
ب ـ عدم السماح لمن آذاها وهم معروفون بالصلاة عليها.
ج ـ عدم إعلام الناس بموتها.
د ـ إعفاء قبرها حتى لا يعرف من كانت ساخطة عليه.
ولهذا نرى أنّ موكب تشييع الزهراء (عليها السلام) اقتصر على أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) وزينب (عليها السلام) وأم كلثوم وأبي ذر وعمار والمقداد وسلمان، فقد كان موكباً متواضعاً لكن أفراده هم خلاصة الإنسانية في ذلك العصر وكفى بذلك فخراً للزهراء (عليها السلام).
ولهذا نرى أنّه بعد استفاقة المسلمين صباح ليلة الدفن وعلمهم بأنّها قد تمّ دفنها ليلا ً، حاول البعض من الناس وهم معروفون ممّن أغضبوها وأسخطوها أن ينبشوا قبرها ليصلّوا عليها، ليكون ذلك لهم خدعة أخرى يخدعون بها الناس البسطاء، لأنّ دفنها من دون علمهم أشعر المسلمين بمقدار غضبها وسخطها المتفجّر ضدّهم والذي وصل إلى حدّ أنّها لا تريد أن يشاركوا في مراسم تشييعها ودفنها.
هنا يقف أمير المؤمنين (عليه السلام) موقفاً آخر، غير الذي وقفه من قضية الخلافة، حيث يروى أنّه عندما أصرّ عمر على ما يريد، جمع الإمام ثوبه وألقاه أرضاً وخاطب من كان يسعى لنبش القبر قائلا ً له: (يابن السوداء أمّا حقّي فقد تركته مخافة أن يرتدّ الناس عن دينهم وأمّا قبر فاطمة فوالذي نفس عليّ بيده لئن حوّل منه حجر لأسقينّ الأرض من دمائكم)، إلاّ أنّ أبا بكر تدخّل بعدما وجد أنّ الخلاف إذا تفجّر قد يطيح بكلّ ما بنوه حتى تلك اللحظة، وإذا به يمارس أسلوبه المعروف فيداهن أمير المؤمنين (عليه السلام) ويحلف عليه برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهدأ من غضبه وثورته على عمر، عند ذاك يتخلّى الإمام (عليه السلام) عن المضي، لكن بعدما وجد الآخرون أن لا سبيل لهم لما يريدون.
هذه بعض النماذج التي حفظها لنا التاريخ الذي تعرّض للتشويه والتحريف، خاصة في تلك الفترة العصيبة من حياة الأمّة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تضمّنت أحداثاً جساماً رسمت خطوطاً مختلفة في مسيرة الأمّة ما زالت تعاني منها إلى الآن نتيجة ضيق أفق البعض ممّن لم يطيقوا أن يروا الحق حاكماً والإسلام منتصراً.
فإلى الله نشكو أمرنا وأمر أمّتنا من كلّ الظالمين والمنحرفين الذين تحمّلت الأمّة عبر تاريخها كلّ أوزار أعمالهم وهكذا انقضت فترة الأيام القصيرة للزهراء (عليها السلام) بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تضمّنت أبرز مواقفها الجهادية والسياسية، تلك الصدّيقة الطاهرة التي عاشت مقهورة بعد أبيها، وماتت مقهورة، وتُبعث مقهورة، وهناك عند الجبار المتكبّر مالك السماوات والأرضين، يكون الحساب وتظهر نتائج الأمور، عند من لا تخفى لديه خافية، في الأرض ولا في السماء.
" والحمد لله ربّ العالمين"