الأحد, 24 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

ظواهر من معركة صفين

sample imgage

يتوقف المتأمّل في معركة صفين عند بعض الظواهر الإيجابية التي يمكن أن يستفيد منها المجاهدون الرساليّون الذين يقومون بأداء الواجب الشرعي في الدفاع عن الإسلام كعقيدة وعن المسلمين كأمّة، وكذلك يتوقّف عند بعض الظواهر السلبية التي يمكن الإتّعاظ منها نظراً للمفاسد التي حصلت بسببها وكان من أبرزها عدم اكتمال النصر الذي بدت ملامحه واضحةً للعيان.

وأول وأهم تلك الظواهر الإيجابية هي المحاولة الجادة التي قام بها أمير المؤمنين(عليه السلام) حرصاً على الأمّة من التفكّك وصوناً لدماء المسلمين التي لا ينبغي أن تسفك في تلك المعركة الفتنة، وقد أكّدت المصادر التاريخية أنّ الإمام علياً(عليه السلام) قد أرسل الوفود إلى معاوية وزوّدها بقوله: (...اذهبوا إلى هذا الرجل-معاوية- وادعوه إلى الله تعالى وإلى الطاعة والجماعة، لعلّ الله تعالى أن يهديه، ويلتئم شمل هذه الأمّة)، إلاّ أنّ جواب معاوية كان: (انصرفوا عنّي فليس عندي إلاّ السيف)، وكذلك نرى الروح المتسامية عند الإمام(عليه السلام) في الحرص على حقن الدماء عندما منع جيش معاوية الماء عن جيش الإمام(عليه السلام) فأرسل إلى معاوية

رسولاً يبلغه :(أنّ الذي جئنا له غير الماء، ولو سبقناك إليه لم نمنعك عنه) ،فكان الجواب: (لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأ) ،وهذا ما دفع بالإمام(عليه السلام) إلى استعمال القوّة التي لم يعد سبيلٌ غيرها للحصول على الماء واستطاع مالك الأشتر بمن معه من فتح الطريق إلى الفرات وإبعاد جيش معاوية عنه، وهنا نجد الأخلاقية الرفيعة النابعة من صفاء النفس العلوية المشبعة بمفاهيم الإسلام وترجمتها عملياً إلى مواقف إنسانية مشرّفة لمن يطلب النصر بوسائله الشرعية النبيلة دون اللجوء إلى النصر بالظلم والجور، وسمح الإمام لجيش عدوّه بالتزوّد من الماء مع أنّ الكثيرين من قادته طلبوا منه أن يعامل معاوية بالمثل، وهذا الموقف المتجرّد عن هوى النفس ووسوسات الشيطان لم يكن رادعاً لمعاوية عن الإستمرار في غيّه ودفعه للأمور نحو التأزّم والإنفجار، ولهذا نجد أنّ الإمام(عليه السلام) تيقّن أنّ تلك الأمور لن تجدي نفعاً مع ذلك الإنسان الذي أعمته شهوته وحقده، فطلب منه أن يتبارزا وحدهما والمنتصر له الغلبة على الأمر دفعاً بذلك للفتنة وحرصاً على دماء أولئك المسلمين، وقال له: (أبرز إليّ ودع الناس، فيكون الأمر لمن غلب)، إلاّ أنّ معاوية رفض ذلك لعلمه بالعجز عن مواجهة الإمام(عليه السلام) الذي كانت له اليد الطولى في بداية المسيرة الإسلامية التي قتل فيها صناديد المشركين ورؤوس أبطالهم، وكذلك نرى الصبر الكبير الذي مارسه الأمير(عليه السلام) حرصاً على الأمّة من التمزّق عندما كثرت تحرّشات الجيش الأموي وقتلهم لأفرادٍ من جيش الأمير(عليه السلام)، لعلّ ذلك يطفئ نار الفتنة ويحقن الدم.

إلاّ أنّه من المؤسف حقّاً أنّ كلّ تلك المواقف الرسالية الكبيرة المتعالية عن حبّ الذات والدنيا والهادفة إلى تحقيق مصلحة الأمّة عبر الحفاظ على دماء أبنائها وقوّتها ووحدتها لم تلق التجاوب من الطرف المقابل الذي باع نفسه للشيطان وجرّ الأمّة إلى معركةٍ ذهب ضحيّتها أكثر من مئة ألف قتيل من المسلمين إرضاء لنزوات منحرفة لأناسٍ لم يكن يهمّهم من أمر دين المسلمين ودنياهم سوى الوصول إلى السلطة والحكم ولو بسفك الدماء وانتهاك الحرمات وتدمير قوّة الأمّة الإسلامية.

هذه المواقف الأخلاقية هي التي ينبغي على الشباب المسلم الرسالي المجاهد أن يتحلّى بها في حال الحرب والقتال مع الأعداء، لأنّ نظرة الإسلام إلى الجهاد أنّه وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله وليس هدفاً بحدّ ذاته، وهذا ما يتوجّب على المجاهدين الإلتفات إليه كلّما كانت الفرصة سانحة والظرف مناسباً لذلك حتّى تظهر الرحمة الإلهية التي تتجلّى في العقيدة الإسلامية من خلال مواقف المجاهدين الذين يبرزون عظمة هذا الإله ورحمة الخالق تبارك وتعالى الذي يريد الخير والسعادة لكلّ أبناء الإنسانية.

أمّا أبرز الظواهر السلبية فقد كانت عدم الإنصياع ورفض الطاعة لأمير المؤمنين(عليه السلام) التي صدرت من العديد من قادة جيشه، وأجبروه على القبول بمبدأ التحكيم بعد الخدعة التي ابتكرها ابن العاص عندما بدأ ميزان المعركة يميل لصالح الإمام(عليه السلام) وهي "رفع المصاحف على الرماح" تلك الخدعة التي حاولوا من خلالها إيهام جيش الإمام بأنّها السبيل الأوحد المتبقّي لحقن دماء المسلمين ولقيت تلك الخدعة تجاوباً من العديد من القيادات والأفراد في جيش الأمير، وقد حاول الإمام علي(عليه السلام) جاهداً وبكلّ الوسائل المتاحة أمامه للإقناع أن يجعل أولئك المشكّكين المخدوعين يعودون عن موقفهم، إلاّ أنّهم أصرّوا وكادوا أن يهمّوا بقتله لو لم يستجب لهم بقبول فكرة "التحكيم".

وحتى بعد قبول الفكرة أراد أن يعيّن شخصاً لينوب عنه وهو "عبد الله بن عباس" إلاّ أنّ الكثير من قادة جيشه أرادوا أن يكون الممثل (أبا موسى الأشعري) بدلاً عمّن اختاره الإمام(عليه السلام) وقد عبّر الإمام(عليه السلام) لأولئك القادة عن رأيه وأراد الدفاع عن اختياره بقوله لهم: (قد عصيتموني في أول الأمر-يشير إلى قبول التحكيم وإيقاف القتال-فلا تعصوني الآن، لا أرى أن تولّوا أبا موسى الحكومة فإنّه ضعيف عن عمر ومكائده)، وقد حدث ما توقّعه الإمام(عليه السلام) من الإختيار السيئ لأبي موسى الأشعري الذي بدا ضعيفاً أمام ممثل معاوية وهو "عمر بن العاص" المعروف بحنكته ومكره ودهائه واستغلاله لنقاط الضعف عند الطرف المواجه له.

هذه الظاهرة السلبية نتج عنها تحويل النصر الذي كان الإمام(عليه السلام) قد كاد أن يصل إليه ليتحوّل إلى ما يشبه الهزيمة بسبب رفض الإنصياع لأوامر وتوجيهات وإرشادات الولي الشرعي لأمر المسلمين، وفرض الآراء المخالفة في المقابل بالضغط والإكراه على القيادة الشرعية.

إنّ هذه الظاهرة السلبية ينبغي أن يضعها المجاهدون في أيّ موقعٍ من المواقع نصب أعينهم في أيّ ساحة من ساحات الجهاد اليوم، وأن يتعوّد المجاهدون على وجوب الطاعة لولي الأمر الذي لا تصدر القرارات عنه بصورةٍ عشوائية وإنّما على ضوء المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، وهذه الطاعة ينبغي أن تظهر في الحالات الصعبة والمواقف الحرجة التي يمكن اعتبارها امتحاناً وبلاءً للمؤمنين الرساليين والمجاهدين المخلصين الذين يلتزمون بقرار الولاية وينفّذون أوامر الولي الشرعي الذي لن يلقيهم في ردى ولن يخرجهم من هدى ولو رأوا فيه أنّه خلاف آرائهم ومصالحهم الشخصية.

هذا بعض ما يمكن استخلاصه من الظواهر الإيجابية والسلبية من تلك المعركة التي كانت مجرياتها حدثاً مفصليّاً في مسيرة الأمّة الإسلامية، ونأمل ونرجو من كلّ إخوتنا المجاهدين في كلّ الميادين العسكرية والسياسية والإجتماعية أن يلتفتوا إليها ليستفيدوا من إيجابياتها ويبتعدوا عن سلبياتها حتّى نستطيع بسيرنا تحت راية الولي الشرعي الذي له القيادة والأمر أن نحقّق الآمال والأهداف التي نسعى إليها.

والحمد لله ربّ العالمين

-الشيخ محمد توفيق المقداد-