خطبة المتقين(2)
- المجموعة: مقالات سيرة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3759
ثمّ يواصل إمام المتقين حديثه عن أوصاف أهل التقوى ويقول بأنّ هؤلاء عندما يكونون في حالة ابتلاء فإنّهم يعيشون الأمل بالله عزّ وجلّ وكأنّهم في حالة رخاء فلا جزع عندهم ولا وجل، وإذا كانوا في حالة رخاء فإنّهم يعيشون الخوف من الله من أن يفتنوا بالنعمة ولهذا فهم لا يبطرون ولا يخرجون عن إطار الحدود الشرعية والأعراف الأخلاقية فيما رزقهم الله وأقدرهم عليه،ولذا يقول (عليه السلام): ( ...نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرّخاء...).
ثمّ يكمل إمام المتقين خطبته فيوضح أنّ هؤلاء أهل التقوى لو لم يحرّم الله عليهم قتل أنفسهم وإزهاق أرواحهم لأحبّوا الرحيل إليه عبر خروج أرواحهم من أجسادهم بسبب اشتياقها إلى الله وحنينها إليه ورغبتها بأن تكون أقرب ما يكون إلى الخالق وهذا لا يمكن أن يتحقق من خلال الأسر المادي والدنيوي لأرواحهم عبر الأجساد المستودعة فيها فتحبّ أن تتحرّر لتنطلق وتسبّح بحمد الخالق ولتعيش في رحاب الله الواسعة في جنان الخلد التي وعدها الله بها إن حبست أنفسها عليه وحده في دنياها كما هو حالها، وذلك الاشتياق الكبير الذي يعيشونه ناتج عن صفاء إيمانهم وشفافية روحيتهم التي تجعلهم وكأنّهم يعيشون في الجنة وهم ما زالوا على أرض الدنيا، ولكن بما أنّ نظرهم الأساس إلى ذلك المقام الخالد فإنّهم يرون أنفسهم كأنّهم في الجنة يتنعّمون بنعيمها ولا يشعرون إلى أنّهم ما زالوا في عالم المادة والجسد والفناء ومن جهةٍ أخرى يعيشون الخوف من الخالق بأعلى درجات الحذر والإحتياط حتى لا يقعوا في الخطأ أو الاشتباه ممّا قد يحرمهم من لذة التواصل والشوق التي وصلوا إليها، ويتعاملون مع القضايا وكأنّ النار أمام أعينهم أو هم فيها ويسعون للخروج منها، ولهذا يكمل الأمير (عليه السلام) حديثه عنهم ويقول ولأجل ذلك الشوق والخوف فإنّهم في حزنٍ دائم لأنّهم ينتظرون اللحظة التي يحين فيها خروجهم فعندئذٍ يفرحون ويهلّلون ولأجل ذلك يعيشون ولا يترتب على عيشهم أيّ أذى أو ضرر أو شر بالآخرين فهم منصرفون إلى أنفسهم مراقبة ومحاسبة وتدقيقاً بحيث تلهيهم نفوسهم عن سواهم قلا شغل لهم بهم بل لا يكادون يشعرون بوجود غيرهم فكيف يصدر الشر منهم ضدّ غيرهم وهم لا يكادون يحسون بوجود أولئك؟ ولذا يعبّر الأمير (عليه السلام) في خطبته :( ....ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب،.... فهم والجنة كمن قد رآها منهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها منهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة).
ثمّ يصف مولى المتقين وإمام الموحدين كلامه الشيّق النابع من القلب الصادق إلى القلوب العطشى عن صفات الأتقياء الورعين ويقول بأنّ أولئك عندما يجنّ الليل ويحلّ الظلام لا يبقى إلا أنوارهم المنبعثة من إيمانهم تشقّ الظلام وتمحو العتمة فالليل عندهم ميدان للعمل الصالح ومسرح لأرواحهم حيث يقفون بين يدي ربّهم يعبدونه ويتضرّعون إليه تارة بوقوفهم في صلاة خاشغين خاضعين متذلّلين وتارة يقرأون آيات الله لتنير في قلوبهم أولاً ثمّ ليضيئوا بها عتمة الحياة الدنيا لكي لا يتعثروا فيقعوا هنا أو هناك وثالثة عبر دعاء يبتهلون به إلى الله من موقع علمهم ويقينهم بأنّهم الضعفاء والفقراء إلى الله الغني الجبار المتعال ،وأمّا النهار فهو عندهم ميدان آخر للجهاد ضدّ النفس وللإرتقاء في المراتب الإيمانية من خلال ما يعايشونه من قضايا ومسائل يتعاملون معها بما يرضي ربّهم ويؤمّن نجاتهم وإنقاذ أنفسهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، ويقول الأمير (عليه السلام) عنهم:( أمّا الليل فصافّون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلا... منهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجبابهم، وأكفهم وركبهم، وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم ، وأمّا النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء....). والحمد لله ربّ العالمين.