الإثنين, 25 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

وَمِثْلي لا يُبَايِعُ مِثْلَهُ

sample imgage

 

رسمتْ عاشوراءُ في التاريخ الإسلامي الحدود الفاصلة بين ما يمكن القبول به وما لا يمكن على مستوى قيادة الأمّة، ولكن بطريقة مأساوية سُفِكت فيها الدماءُ الزكيّة وسُبِيت فيها نساءُ النبيّ (ص) وأهل البيت (عليهم السلام)، لتستطيع من ذلك تحريك عواطف الناس ومشاعرها وأحاسيسها، ولتهيّئها من خلال هذا لاستيعاب خطابها التاريخ الذي أرادت منه تنبيه الأمّة إلى الأخطار الكبيرة التي كانت تتعرَّض لها نتيجة المؤامرة الأمويّة التي كانت تهدف إلى إعادة الأمّة إلى الوراء، زمن الجاهليّة، يوم كانت العصبيّات العشائريّة والقبليّة هي التي تحكم علاقات الناس مع بعضهم البعض، وهي التي كانت تحدّد المراتب الاجتماعية على طبق الموازين المتعارفة والسائدة آنذاك وتعطي القيمة لكلّ فرد من الأفراد في ذلك المجتمع، ولهذا فقد ركَّز الإمام الحسين (ع) في خطابه للأمَّة على أمرين أساسيين:

الأمر الأوّل: رفض قيادة الحاكم المنحرف ولو كان متظاهراً بالإسلام وحاكماً باسمه.

الأمر الثاني: الإصلاح في مسيرة الأمّة بعد الخلل الذي أصابها نتيجة الانحراف.

أمّا النصّ التاريخي الذي استند إليه الإمام (ع) في رفض البيعة والتسليم لقيادة يزيد هو "إنّا أهل بيت النبوَّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله".

هذا النصّ الذي استعرض فيه مواصفات ذلك الخليفة المستهتر المتهتّك، الذي تجاوز بتصرفاته وسلوكه الحدود الشرعية، من دون أيّ مراعاة للرأي العام الإسلامي، أو للحرمات والمقدّسات من الأنفس والأعراض، وأباح لقادته المؤتمرين بأوامره المنحرفة الظالمة مصادرة الأموال والممتلكات، وكتم الحريات، وخنق الأصوات التي تدعو إلى الالتزام بقواعد الشريعة وتطبيق أحكامها، لأنّ هذا الأسلوب هو الذي يثير الذعر وينثر الرعب في قلوب أبناء الأمّة، وهو الوسيلة الأنجع في مواجهة كل الذين يعارضون أو في نيتهم سلوك سبيل المعارضة للواقع القائم.

وبما أنّ انحراف الحاكم هو الذي يفتح الباب على مصراعيه لدخول الفساد وتسرّبه إلى صفوف المجتمع، باعتبار أنّ انحرافه سوف يحمله على استغلال موارد الأمّة لتحقيق طموحاته وتنفيذ رغباته، وهذا ما يستلزم أن يجد لنفسه الأعوان والأزلام ليساعدوه على الوصول إلى مشتهياته ونوازع نفسه الشريرة الأمّارة بالسوء، البعيدة عن الالتزام بقواعد السلوك التي تفرضها العقيدة الإسلامية على أتباعها، من دون التمييز بين الحاكم والمحكوم، بل إن الحاكم أولى بالتقيّد بأحكام الشريعة من المحكوم، كونه في موقع القيادة والإدارة للأمّة، فإذا سمح لنفسه بتجاوز القواعد، فهذا معناه فتح المجال أمام ضعاف النفوس أيضاً للسير على خطى الحاكم المنحرف، مما يسمح بالتالي بتسرّب المفاهيم المضادة، والسلوك غير المتزن إلى جسم المجتمع، وبما أنّ الحاكم ليس ممّن يهتم بالحفاظ على عدم الانحراف عند الأمّة، سواء على الصعيد الفكري أو السلوكي، بل قد يكون هو بنفسه من أشدّ المشجّعين والدافعين إلى الانحراف لتغرق الأمّة في تلك الأجواء، لتعود من خلال غرقها في دهاليز الانحراف غير قادرة على أن ترى المخاطر الكبيرة التي تتهدّد كيانها ومصيرها، وهذا ما يجعلها تركن إلى الدعة والسكون، فتموت في نفوس أبناء الأمّة روحيّة الجهاد والتضحية في سبيل الإسلام وما يمثّله من القيم والمبادئ، وتصبح القيمة الفعلية والحقيقية للبدائل من الموازين غير الواقعية التي أفرزها واقع الانحراف الذي تحقّق في جسد الأمّة ويريد العودة بها إلى زمن الجاهلية الجهلاء.

وهذا ما كان قد تحقق عمليّاً وواقعيّاً في زمن يزيد، بعد سلسلة من الترتيبات التي تمَّ اتخاذها في زمن معاوية للوصول إلى هذا الهدف، وكان اختيار يزيد للخلافة هو من الأهداف المرحليّة الأساسيّة الملحوظة في ذلك المخطّط، ولهذا نرى أنّ الإمام الحسين (ع) قد أوضح ذلك في نصّ تاريخي آخر، يكشف فيه عن الانحرافات الحاصلة بسبب تلك القيادة التي لا تراعي الحرمات ولا تلتزم شريعة الله ولا تخافه في قولها أو فعلها، وقد جاء في ذلك النصّ ما يلي: "أيها الناس: إنّ رسول الله (ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرام الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسنَّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء القوم قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيَّر".

وقد تضمَّن النصّ تكليفاً إلهيّاً بوجوب الثورة على الحاكم الذي يتجاوز حدود ما أنزل الله، وتضمن تطبيقاً للنصّ على الواقع الموجود زمن يزيد، من خلال توضيح أهم أسباب المخالفة لسنّة رسول الله (ص)، وقد حدّدها الإمام الحسين (ع) بما يلي:

- "طاعة الشيطان"، الذي يمثّل عنصر الغواية والإفساد والانحراف، فيغريهم بحبّ الدنيا وما فيها من الملذّات والشهوات والرغبات وأنّ هذه الأمور هي التي يفترض السعي لتحصيلها، فيزيّنها لهم ويحسّنها في أعينهم، ليلتزموا نهجه التدميري والتخريبي على النفوس والسلوك.

- "ترك طاعة الرحمن"، لأنّ الناس عندما تصبح لاهثة وراء البحث عن الشهوة واللذّة، فإنّ هذا التوجّه يؤدي إلى المعصية وارتكاب المحرّمات وترك الواجبات، من دون الخوف من الله سبحانه وعقابه، وما أعدّه للعاصين المنحرفين من العذاب في الآخرة، وعندما لا يعيش المسلم روحيّة الخشية من الخالق، تصبح نزواته ورغباته أولى بالطاعة عنده من الله سبحانه، وهي التي توجهه وتقوده.

- "إظهار الفساد"، لأنّ الحاكم من موقع انحرافه لن يكون بمقدوره أن يكون الموجِّه الصالح والمرشد للأمّة، بل هو بنفسه يحتاج إلى ذلك، سوف لن تصدر عنه إلّا الأفعال التي تعتبر الصدى لانحرافه، وهذا فيه من الإغراءات لضعاف النفوس ما يكفي لظهور الفساد وإشاعة المنكرات في مجتمع المسلمين، لأنّ الحاكم ليس ممّن يعير انتباهاً على بقاء المجتمع سليماً من الفساد.

- "تعطيل الحدود"، وهي التي شرّعها الله لمنع تسلّل الانحراف إلى حياة الأمّة، وهي السلاح الذي يستعمله الحاكم للضرب بقوّة كل الذين تسوّل لهم أنفسهم وتوسوس لإظهار الفواحش والمنكرات، فهي الضمانة التي يبقى المجتمع من خلالها محافظاً وسليماً من الاختراقات، فإذا تمّ تعطيل هذه الحدود وبسبب انحراف الحاكم، فإنّ في ذلك تشجيعاً للنفوس المريضة التي سوف تتجرّأ على الله وأحكامه، مع ما يشكّله ذلك من الخطر الكبير على جسم الأمّة.

- "الاستئثار بالفيء"، وهو عبارة عن أنّ الأموال التي تتمّ جبايتها من المسلمين لكي تصرف في مصالحهم العامّة، صارت وسيلة بيد يزيد الطاغية من أجل شراء الضمائر والإغراء والإفساد وإيقاع الفتنة بين المسلمين، وصارت كذلك وسيلة لكي يشبع يزيد كل نزواته المحرّمة بأموال الأمّة وثروتها، وتقسيمها على جلاوزته الذين ارتضوا بأن يرهنوا دينهم ويبيعوه بذلك الثمن البخس الذي لا قيمة له عند الله.

- "تحليل الحرام وتحريم الحلال"، وهنا يتجلّى الانحراف بأبرز أشكاله، فتنقلب الأمور، ويصبح حرام الله من المنكرات والموبقات أموراً محلّلة، لا أحد يحاسب عليها أو يعاقب أو يردع، ويصبح حلال الله حراماً، فيتوقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويضرب من يحاول أن يعمل على تصحيح المسيرة.

فالإمام الحسين (ع) في ذلك النصّ كشف الخطر المحدق بالشريعة وبالأمّة أيضاً، وكان لا بدّ من الثورة على ذلك، كما قال (ع): "وأنا أحقّ من غيَّر" لأنه مأمور شرعاً وعقلاً بالدفاع عن العقيدة عبر القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتبار أنه المكلَّف الأول بذلك قبل كل الآخرين، ولهذا فقد أوضح في نصّ آخر الهدف لثورته حيث قال (ع): "ألا وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنْهَى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحقّ، فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ أصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين".

وبذلك رسم الإمام الحسين (ع) بنهضته المباركة تلك الحدود النهائية بين الحاكم العادل والظالم، حتى تستطيع الأمّة أن تحدّد الموقف من أيّ حاكم يتسلّم مقدرات الأمور فيها، فتعرف ساعتئذٍ من تجب طاعته ممّن لا تجب، وهذا ما التزمه أتباع خط أهل البيت (عليهم السلام) والحسين (ع) خصوصاً، منذ ذلك الوقت وحتى الآن، من دون مساومة.

ومن خلال نظرة سريعة إلى ما تعيشه الأمّة اليوم من أوضاع صعبة، نرى أن المشكلة الكبرى هي في الأنظمة التي تحكم المسلمين، وهي البعيدة كل البعد عن جوهر الدين الإسلامي ومضامينه، بل هي التي تحارب المجاهدين الإسلاميين في الكثير من بلداننا التي تنتفض شعوبها ضد التوجّهات المنحرفة لتلك الأنظمة التي تريد إيصال الأمّة بأسرها إلى مرحلة من الإحباط ولو بالقهر وكمّ الأفواه ومصادرة الحريّات العامّة والفرديّة، ومنع كلّ الحركات المعارضة لسياسة الحكّام، خاصّة المعارضة الإسلامية التي ترى فيها القوى الاستكبارية في العالم والأنظمة العميلة في مناطقنا أنها العدوّ الأوّل لهم.

إنّ محاربة تلك الحركات الإسلاميّة المنبثقة الآن في زمن هذه الصحوة الإسلامية المباركة على مستوى عموم العالم الإسلامي ناشئ من أنّ الحكّام ولو كانوا مسلمين بالاسم أو لم يكونوا مسلمين أصلاً، يمثّلون الخطّ اليزيدي في واقع الأمّة، ولهذا نحن لا نتوقّع الخير أبداً من أمثال هؤلاء، بل نتوقّع وكما كنّا على يقين بذلك، أنهم سيواجهون مثل الحركات بالحديد والنار، لأنها النقيض لوجودهم من حيث المنطلقات والسلوك والأهداف، إلّا أنّ ذلك كله لن يهزم إرادة المسلمين الذين آمنوا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمّد نبيّاً (ص)، والقرآن دستوراً، وكان الشعار وسيبقى (هيهات منّا الذلَّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله (ص) والمؤمنون) حتى تحقيق النصر المبين أو الشهادة الحمراء اقتداءً بأبي الأحرار الإمام الحسين (ع).

والحمد لله ربّ العالمين

                                                                   6/ محرّم الحرام/ 1412هـ.     

                                                                   الشيخ محمد توفيق المقداد